مذبحة تلمسان: الغدر عند العثمانيين سُنة الأولين والآخرين

لم يكن الأمر ليستقيم للقراصنة الأتراك في شمال إفريقيا؛ لولا اتباعهم لأساليب المكر والخديعة، والخبث والوقيعة، وكأنهم قاموا بقراءة كتاب “الأمير” لنيقولا ميكافيلي (1469-1527)، الذي عاصر وما جاور جرائم الأتراك العثمانيين في المنطقة، فكانت الغاية تبرر الوسائل القذرة التي لجأ إليها الأخوان بارباروسا لإخضاع هذه البلاد المسلمة لحكم العثمانيين، ولو في إطار لا مركزي ونمط إداري هم أقرب للحكم الذاتي منه إلى الإدارة المركزية.

في هذا السياق، وبعد الانتهاء من إخضاع إمارة تنس، وإعدام أميرها مع حشد كبير من سكانها تحت مبررات الفتنة وموالاة الكفار، جاء الدور على تلمسان لتواجه نفس مصير تنس، وتحت نفس المبررات والمقدمات، والتي تم تغليفها بغطاء الدين وبرداء الشرع، وحيث إن عروج بدأ بالحشد للإطاحة بأمير تنس حميد العبدي، وضمها إلى سلطانه تحت مبرر أن (تنس) هي مصدر الفتنة، فكذلك كانت المبررات للهجوم على تلمسان، والتي وصفها عروج بارباروسا بأنها “مصدر جميع الفتن”، وهي التهمة التي لا تصمد أمام الواقع، واعتراف خير الدين بارباروسا نفسه حين عاد للتأكيد بأن المدينة “كانت تُحكم من طرف أسرة حاكمة منذ أمد بعيد”.

إن تدبير عروج لم يكن لينجح؛ لولا سوء تقدير بعض سكان تلمسان، والذين لم يتعظوا أو ربما لم يعلموا بمحنة أهل الجزائر الذين استنجدوا بالقراصنة الأتراك قبل أن ينقلب عليهم هؤلاء، ويذيقوهم من شتى أنواع الذل والمهانة والعذاب، فكان أن شكّل أعيان تلمسان وفدًا رفيعًا، وقاموا بإرساله إلى الغازي عروج راجين منه – باسم الملة والدين – أن يخلصهم من حكم أبي حمو الثالث، والذي حالف الإسبان، ورضي بموالاة “أهل الكفر” من العجمان، وهو الطلب الذي عززته رسالة بنفس المضمون لابن أخيه أبو زيان وهو في سجنه ليقود حملة الانقلاب على عمه.

وحول استنجاد سكان تلمسان بعروج بارباروسا، يقول خير الدين بارباروسا: “كان سلطان تلمسان ملكًا بائسًا خاضعًا لكفار إسبانيا، أما الأهالي فقد كانوا يعانون من ظلم الإسبان، ومن ظلم سلطانهم أيضًا. ومنذ مدة طويلة جاء التلمسانيون إلى الجزائر متوسلين إلى أخي عروج أن يأخذ لهم حقهم من ظُلَّامهم”.

ورغم أن عروجًا كان يُمنّي النفس باحتلال تلمسان، وضمها إلى “دولته الجديدة”،إلا أن بُعدها عن مدينة الجزائر ثم كونها مدينة داخلية، فلم يكن بالإمكان إعمال تكتيكات المناورة والإنزال عبر البحر، جعل عروج بارباروسا يتريث قبل الزحف عليها، ويتربص بها إلى حين أن تنضج الشروط لإخضاعها.

لقد كان عروج ينتظر ويراقب تطور الأمور داخل تلمسان، وكانت له عيون وأتباع داخل المدينة ينقلون له كل صغيرة وكبيرة، وهؤلاء هم من وطَّأ لتسليم المدينة للأتراك دون قتال، وذلك بعد أن أشعلوا “ثورة” على سلطانهم الذي فرّ  من المدينة، وهو السيناريو الذي كان يتمناه عروج بارباروسا، حين نجح في إخضاع تلمسان بدون أية خسائر في العتاد أو الأرواح.

ومرة أخرى ينجح الأتراك العثمانيون في إخضاع إمارة أخرى، ليدخلوها دخول الفاتحين ويستقبلهم أهلها ظنًّا منهم بأن ولاءهم للباب العالي سينهي الاستعمار، وسيملأ الإمارة عدلًا بعدما مُلئت جورًا، وذلك هو سوء التقدير الذي أورد مَنْ قبلهم موارد التهلكة، وألحقهم بمصير من سبقهم؛ لأنهم لم يعلموا نوايا عروج، ولم يستعلِموا عن البنية السلوكية العرقية والاستعلائية للأتراك.

في هذا الصدد، وما أن دخل عروج المدينة واطمأن لحكمه، حتى أطلق يد جنوده في أهل تلمسان الذين أغلظوا في معاملتهم، واستباحوا الدماء والأعراض، وهو ما جعلهم يندمون على الاستنجاد بعروج، حسب رواية المؤرخ الجزائري مبارك الميلي.

وعلى إثر ذلك، سيرفع أهل تلمسان لأبي زيان شكواهم وظلم الأتراك لهم، حيث قام الأخير برفعها إلى عروج بارباروسا، والذي بدل أن ينظر في الشكوى ويرد المظالم ويرفع الظلم، قام بإصدار الأوامر بشنق أبي زيان على واجهة القصر.

إن دموية عروج وحقده العرقي تجاه كل ما هو عربي ستدفعه إلى عدم الاكتفاء برأس أبي زيان، بل أعطى أوامره لجنده بإغراق سبعين شخصًا من أسرة أبي زيان، ويضيف مبارك الميلي، بأنهم قتلوا أيضًا نخبة من أهل المدينة، والملاحظ أن خير الدين بارباروسا تجنب الحديث عن هذه المجزرة، ولم يُشر إليها لا من قريب ولا من بعيد مكتفيًا بالتركيز على التهديد الإسباني القادم من وهران، والذي سيُعجل – فيما بعد- بنهاية عروج بارباروسا.

لن يكتفي القرصان العثماني بإعدام حاكم المدينة، وإغراق أسرته، وقتل جمع من أهل المدينة، بل استباح أموالهم، وأثقل كاهلهم بالضرائب التي فرضها عليهم، والتي اشترط أن تكون حبوبًا لمواجهة الحصار الذي توقع أن يفرضه الإسبان على المدينة، وهو ما تم فعلًا.

قرر الإسبان استخلاص تلمسان من أيدي الأتراك، وجهزوا من أجل ذلك جيشًا كبير قدره بعض المؤرخين بعشرة آلاف جندي، والبعض الآخر بأربعين ألف، وقاموا بالزحف على تلمسان مستغلين حالة الاحتقان التي تعيشها المدينة، والعداء الذي أصبح يكنّه سكانها للغازي عروج، حيث ظلوا يتحينون الفرصة للتخلص منه، ولعل عروج كان يعلم بأنه لا يمكنه الاعتماد على التلمسانيين الذين أقسموا بالوفاء له، وهو غير مطمئن لهؤلاء، وبالنتيجة فهو أضعف قوة أمام الإسبان.

وسيتحرك الإسبان مع الحاكم السابق لتلمسان أبي حمو حيث سيقومون بإخضاع قلعة بني راشد أولًا، بعد أن احتالوا على إسحاق بارباروسا – شقيق عروج – ليصلوا إلى تلمسان، ويضربوا عليها حصارًا خانقًا قبل أن يحتالوا مرة أخرى على عروج بارباروسا حين أعطوه الأمان قبل أن ينقلبوا عليه ويتعقبونه ويقتلونه، وسبحان الله الذي أذاق عروج موتة من جنس عمله، وجعله يتجرع مرارة نكث العهود والانقلاب على الوعود.