مترجمًا مأزق العقلية القومية الإيرانية

الشعوبي عبدالحسين زرين: إن القرنين الأوّليْن لدخول الإسلام إلى فارس كانا قرني صمت وتجهيل واضطهاد ثقافي

لم يجرؤ أحد من الفرس انتقاد الإسلام صراحة، لكنهم تحايلوا واستبدلوا ذلك الانتقاد بالتقليل من الشخصية العربية والهجوم عليها، واتهامها بما ليس فيها؛ لأنها -كما زعموا- “اكتسحت الثقافة الفارسية وقمعتها وجففت منابعها”، ما سبق ليس قولاً لمفكر عربي بل هو للإيراني “عبدالحسين زرين كوب”.

لا نبالغ إذا قلنا إن الفارسية المتعصبة العنصرية التواقة لإرثها “الزرادشتي”، لا تزال متغلغلة في الوجدان الفارسي، ولعل أقرب وصف للحالة “الفارسية الإيرانية” المتداخلة العجيبة في شكلها الحالي، هو: أن هناك دولتين في إيران تتخادمان، لكل منهما دورها الذي تؤديه دون أن تصطدم بالأخرى ، وتعملان بالتوازي لمصالح الإرث الفارسي.

الدولة الأولى: دولة عقائدية رجعية مذهبية موغلة في الخرافة، مزجت بين شعائر قديمة عديدة وقدمتها على أنها إسلامية، بهدف امتلاك العاطفة والاستيلاء على المشاعر وتحريك الولاء نحو طهران.

الدولة الثانية: فارسية عنصرية تستخدم نتائج الأولى لتحقيق وتعميق النزعة الفارسية في الأنفس الإيرانية وإبقائها متقدة، والعمل لاستعادة الإمبراطورية الفارسية، ووجود الدولة الأولى ما هو إلا وجود مرحلي، تنتهي تمامًا بتتويج الدولة الفارسية الثانية.

هذا ليس خيالاً، فقد فعلها آخر ملوك إيران محمد رضا بهلوي، ففي الثاني عشر وحتى الرابع عشر من شهر أكتوبر العام (1971)، أقام الشاه احتفالاً ضخمًا على ذكرى مرور 2500 عامٍ من تأسيس الإمبراطورية الفارسية. أقيم الحفل وسط آثار مدينة بيرسيبوليس القديمة قرب ضريح أول ملوك الفرس الإخمينيين “كورش” مؤسس الإمبراطورية الفارسية، وهو الوقت الذي كان فيه الفرس جاهزين لاستعادة حلم الإمبراطورية، غير أن العالم لم يكن مستعدًا لقبول هذا العبث الفارسي حينها.

الشاه محمد رضا بهلوي أراد الخروج من العقدة العربية سنة (1971) باحتفال ذكرى الإمبراطورية الفارسية الأولى قبل 2500 سنة عند قبر "قورش".

اتهام مبطن للعرب والإسلام:

يقول القومي الإيراني عبدالحسين زارين كوب في كتابه “قرنان من الصمت”: “إن القرنين الأوّليْن لدخول الإسلام إلى فارس كانا قرني صمت وتجهيل واضطهاد ثقافي”. وقوله يُعَدُّ نظرية شائعة في إيران، ترى أن الفاتحين العرب كانوا متخلفين أجلافًا لا يحملون أي شيء يقدمونه، فحاربوا اللغات الفارسية، وفرضوا العربية بحد السِّنان، مما حتّم على الفرس التقوقعَ والسكوت الأدبي مائتيْ عام، رابطين خروجهم من القرنين الأوَّلين في الإسلام بحكم المأمون للدولة العباسية، الذين استطاعوا من خلاله الدخول لمفاصلها واستعادة ما يزعمونه من هوية.

ويعلق الباحث الأردني خالد بشير واصفًا وصول المتطرفين الفرس إلى سدة الحكم العربي، وتحديداً مع نهاية عصر هارون الرشيد، بقوله: “إنه جاء أثر تغلّب الخليفة المأمون، ومناصريه من الفرس على شقيقه الأمين، ومن ثم وصول الفرس إلى المناصب العُليا في الجيش والقصر العباسي، لتبدأ بذلك القومية الفارسية بالانبعاث من جديد؛ بل إنّ عبد الحسين زرين كوب، يجعل من الحضارة العباسية حضارة فارسيّة بامتياز”، كما يصف بشير الشعوبية قائلاً: “على مستوى الحراك الفكري والأدبيّ، شهدت المرحلة الجديدة بروز التيار المعروف بـ الشعوبية، وهو التيّار الذي حاول المجادلة والتفنيد لمقولة أفضلية العرب، التي اعتبرت ردّ فعل على الأطروحات القوميّة العربيّة التي راجت وسادت طيلة العصر الأمويّ، وبقيت الحركة الشعوبيّة معتزة بالتراث الفارسيّ، ودعت إلى إحيائه من جديد، ورفعت شعار أفضلية الشعوب الأخرى على العرب؛ رداً على النزعة العربية، ومن الشعوبيّين من ذهب إلى أبعد من ذلك، فيتحدث الجاحظ في كتابه البخلاء عن طائفة من الشعوبية كانت تسمى الآزادمرديّة، كانوا يرون بُغضَ العرب، وأنّه لا تفضيل لهم على العجم، ويقول عنهم: وهم الأشدّ تعصباً للفرس”.

تشابك العلاقة العربية الفارسية:

يحلِّل الروائي والكاتب أحمد فال كتاب عبدالحسين زرين كوب “قرنان من الصمت”، مؤكدًا تشابك العلاقة العربية الفارسية وتحامل الفرس عليها: “إن من يقرأ الكتاب يفهم أنه وُضع للخروج من مأزق تاريخي مزعج للعقلية القومية الإيرانية، التي كانت في عنفوانها أيامَ تأليفه. فالأساطير الفارسية تبالغ في الواقع العلمي والثقافي لبلاد فارس قبل الإسلام، لكن الواقع والدراسة المتأنية لا يعززان الصورة القابعة في الذهن القومي. ولذا فقد عاد المؤلف في تقديمه للطبعة التي بين أيدينا وعدل كثيرًا من نص الكتاب، معترفا بأنه كان مليئًا بالعنصرية والأخطاء؛ لعجزه عن الاعتراف بأخطاء إيران أو هزيمتها. ومع أن النسخة التي بين أيدينا نسخة معدلة –باعتراف المؤلف- فإنها تحوي ما يكفي من العنصرية ومجانبة الأمانة العلمية، ولعل من يقرأ الكتاب ويرى كيف يطلق صاحبه الأحكام الخطرة العارية من الأدلة، يفهم سبب عدم ترجمته للغات أخرى، إذ لم يترجم للإنكليزية مثلا إلا بعد خمسين عامًا”.

نقض فرضية الاضطهاد العربي للثقافة الفرسية:

وفي سعيه لتفنيد نظرية اضطهاد العرب الثقافة الفارسية يقول أحمد فال: “البحث التاريخي المعاصر لا يعضد وجود أدب معتبر في الفارسية القديمة. وقد أقر بذلك أغلب الدارسين المهتمين حتى أولئك المغرمون بفارس تاريخًا وأدبًا وموسيقى مثل الأستاذ بجامعة هارفارد ريتشارد فراي. إذ يرى أنه يعسر على الباحث إيجاد أدلة على وجود كتابات إيرانية قبل الإسلام، خصوصًا بالمقارنة مع الرومان والإغريق، فرغم كثرة التنقيب والترجمات، ووجودَ دعم سخي للبحث لم يجد القومُ ما يثبت وجود نصوص أدبية جادة تعود إلى ما قبل الإٍسلام. ويكاد ما وُجد أن ينصرف إلى نثرياتٍ في أنماط التعاطي مع كسرى وحاشيته، وغير ذلك من تقاليد الوثنية السياسية الكسروية. أما الشعر النفاذُ، والنثر الأخاذُ الذي ظهر تحت ظل الإسلام فلا أثر له قبل ذلك، لأنه كان منتجًا إسلاميًّا استفزّْته الهبّةُ الدينية الجديدة، وغذّاه انتشار العلم والتعليم الذي جاء به الدين الجديد، وولده التزاوج اللغوي مع لغة فتية شاعرة قادمة من صحراء العرب. وأمام هذا الواقع المعرفي وقع العقلُ القومي في مأزق ناتج عن حقيقتين”. الأولى: غياب نصوص أدبية أو علمية مكتوبة بالفارسية القديمة، والثانية: بروز اللغة الفارسية الإسلامية واحدةً من أزهى لغات العالم وأكثرها عذوبة وأعمقها أدبًا، مما أنتج أدباء عاشوا في ظل الدولة الإسلامية وأنتجوا إبداعا عظيمًا مثل السنائي وحافظ، وسعدي والخيام والرومي.

وهاتان الحقيقتان تزعجان العقل القومي المعادي للإسلام؛ لتضمنهما خلاصة تقول: إن الإسلام هو الذي منح اللغة الفارسية عمقها الفلسفي وعذوبتها الأسلوبية بعد أن لامس الدينُ شغاف النفس الفارسية، وحُقنت الفارسيةُ بالعربية مما “منح العالم لساناً من أعذب الألسنة”، وللخروج من هذا المأزق افترض القوميون الفرس وجود أدب راق لكنه ضائع، وينقل “فال” عن المؤرخ الإيراني صاحب كتاب قرنان من الصمت هذا النثر المليء بالاتهامات للعرب والانتقاص منهم:

“في الوقت الذي كانت فيه النغمات البهلوية لبربار ونغيسا تملآن البلاط الساساني بالأصوات العذبة كان اللسان العربي -بين أفواه العرب- أيبسَ وأتعس من الرمال الملتهبة… فإذا تردد صدى في الصحراء فإنما هو هيعة لص! كانت كلماتهم لا تحمل أي توجيه، ولا عاطفة، وشعرُهم متمحور حول الميسر وأعضاء الإبل، وكانت اللغات الإيرانية مليئة بالمعاني والفلسفة والمنطوقات الجميلة. كان الإيرانيون يقرؤون الكتب الدينية ويغنون أغاني الجنان، ويكتبون قصصًا عن ملوكهم… ويقدرون الكلمة الجميلة”.

  1. أحمد فال الدين، “قرنان من الصمت: كان الفاتحونَ أجلافًا، حاربوا الفارسية، وفرضوا العربية بحد السِّنان”، نشر “الموقع” (د.ت)، على الرابط: http://www.almawqi.com/2019/03/04/2cofc/.
  2. بادي بدايتي، كورش كبير (تهران: انتشارات دانشكاه، 1335هـ).
  3. خالد بشير، “كيف ينظر الفرس للعرب؟”، موقع حفريات (2020)، على الرابط: https://hafryat.com.
  4. محمد السلمي، الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018).
  5. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).