ثالوث الاستبداد:
أنور وجمال وطلعت
اتسمت الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية بكثرة الانقلابات العسكرية، وحالة من عدم الاستقرار ساهمت إلى حدٍ كبير في التعجيل بسقوط الدولة، لكن أخطر هذه الانقلابات هو ما حدث في عام (1913م) عندما اقتحمت مجموعة من الضباط بقيادة “أنور بك” مقر مجلس الوزراء؛ حيث قام بإطلاق النار على وزير الحربية “ناظم باشا” وأجبر “كامل باشا” على تقديم استقالته.
يقدم “برنارد لويس” في كتابه “ظهور تركيا الحديثة” وصفًا مهمًا وصادمًا عن هذه الفترة؛ إذ يلخص تطور الأحداث من سنة (1913م) وحتى هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى سنة (1918م) قائلاً: “ومنذ ذلك الحين وحتى عام (1918م) كانت تحكم تركيا ديكتاتورية عسكرية حكمًا فعليًّا، يهيمن عليه ثلاثة رجال، هم أنور وطلعت وجمال باشا”. فمن هم ثلاثي الرعب؟
ولد “أنور باشا” في إسطنبول سنة (1881م) واختلفت المصادر التاريخية حول أصوله، لكنها أجمعت على أنه أتى من أسرة اسطنبولية متواضعة، ثم تخرج من الكلية الحربية وانضم إلى تركيا الفتاة وشارك في انقلاب (1908م)، وفي (1913م) أصبح وزيرًا للحربية وأخذ لقب باشا، وفي (1914م) تزوج من أميرة عثمانية، ليكتسب مكانة اجتماعية أعلى.
كذلك “جمال باشا” ولد في إسطنبول سنة (1872م) من أسرة عسكرية وتخرج من الكلية الحربية، وتم تجنيده مبكرًا في جماعة تركيا الفتاة، وبعد انقلاب (1913م) أصبح حاكمًا عسكريًّا لإسطنبول، ثم تولى وزارة الحربية، وأصبح بعد ذلك قائدًا للجيش العثماني في بلاد الشام.
أما ثالثهم “طلعت باشا” الذي ولد في أسرة فقيرة في أدرنة سنة (1874م)، وتدرج في عدة وظائف مدنية خاصةً في إدارة البريد مما سهل من الاتصالات السرية للجماعة، وتولى بعد انقلاب (1913م) منصب وزير الداخلية، وفي (1916م) تولى منصب الصدر الأعظم أي رئيس الوزراء.
وتصف المصادر التاريخية “أنور باشا” بالدموية (1913م)، وتشير بعض المصادر إلى أنه المؤسس الحقيقي لما يُعرف بـ”تشكيلاتي مخصوصة” أي التشكيلات المخصوصة، وهي جهاز المخابرات العثماني الجديد الذي تم تأسيسه بمساعدة الألمان ليكون الجهاز السري للدولة في عملياتها القذرة، وتُوَجَّه أصابع الاتهام إلى هذا الجهاز في القيام بعمليات المذابح والإبادة للأرمن، بينما ينفي المؤرخون الأتراك ذلك، كما يُشار إلى دور التشكيلات المخصوصة في تعقُّب الجمعيات السرية العربية، كما لعبت التشكيلات المخصوصة دورًا مهمًا في الإعداد لحملات الجيش العثماني على مصر أثناء الحرب العالمية الأولى، ومحاولة اقتحام قناة السويس، كما استطاعت التشكيلات المخصوصة تجنيد بعض العملاء في مصر لصالح الدولة العثمانية وكان على رأسهم الشيخ “عبد العزيز جاويش”، وقدمت الدعم المادي لبعض الصحف المصرية الموالية للدولة العثمانية، وأشرفت التشكيلات المخصوصة على تنظيم الاتصالات السرية بين الدولة العثمانية والسنوسيين في ليبيا، وخططت لغزو مصر من الغرب، كما أجرت التشكيلات المخصوصة اتصالات سرية مع سلطان دارفور في السودان من أجل ضمه إلى صف الدولة العثمانية، والقيام بحركة تمرد هناك ضد السلطات المصرية والجيش الإنجليزي.
أما “جمال باشا” تصفه المصادر التركية والعربية بأنه كان حادَّ الطباع ومنغمسًا في شهواته، ولقد اكتسب “جمال باشا” شهرة دموية أثناء إقامته في بلاد الشام؛ إذ قام بإجراء حركة إعدام واسعة في صفوف زعماء الحركة العربية في كلٍ من سوريا ولبنان. وتذكر المصادر أنه في دمشق، وفي يومٍ واحد، تم إعدام كلٍ من: الأمير عمر الجزائري وعبد الوهاب المليجي وشكري العلي ورفيق رزق سلوم ورشدي الشمعة، أما في بيروت وفي اليوم نفسه أُعدِمَ كلٍ من: سليم الجزائري وعليّ النشاشيبي وسيف الدين الخطيب ومحمد الشنطي وأمين لطفي الحافظ وتوفيق البساط وجلال النجاري والأمير عارف الشهابي والشيخ أحمد طبارة وعبد الغني العريسي وجرجيس الحداد وباترو بالي وسعيد عقل. وكانت حجة “جمال باشا” وراء هذا التوسع في حركة الإعدام، أنه اكتشف عن طريق التشكيلات المخصوصة وجود اتصالات سرية بين الزعماء العرب والقنصليات الأجنبية، لا سيما القنصلية الفرنسية، بينما كانت الحركة العربية ترى أن الاتحاديين وممثلهم في بلاد الشام “جمال باشا” قد تخلوا عن سياسة اللامركزية، وتبنوا سياسة فرض التتريك على الشعوب العربية، وأن الصلة قد انقطعت بين العنصر العربي والعنصر التركي.
وبالفعل كانت سياسة الثالوث “أنور وجمال وطلعت” قاسية ضد العنصر العربي، بل بدأ هؤلاء حركة انعدام الثقة حتى في الضباط العرب العاملين داخل الجيش العثماني نفسه؛ إذ قام الثالوث بإبعاد الضباط العرب المقيمين بإسطنبول إلى مختلف الولايات التركية، كما قاموا بتولية الضباط الأتراك مناصب القيادات العليا في البلاد العربية والاستغناء قدر الإمكان عن الضباط العرب في المناطق ذات الأغلبية العربية.
وربما كانت أخطر الإجراءات التعسفية ضد الضباط العرب في الجيش العثماني اعتقال الضابط الشهير العقيد “عزيز علي المصري”، رغم أن ميوله كانت مع الدولة العثمانية، حدث ذلك في ظل اللامركزية وإعطاء الولايات العربية وضعًا متميزًا شبيهًا بوضع المجر في ظل إمبراطورية النمسا والمجر. لكن الثالوث لم يرضوا بذلك، وقاموا بمحاكمة “عزيز عليّ المصري” ووجهوا له تهمة مُلفَّقة وهي الخيانة، وصدر عليه الحكم بالإعدام، لكن هذا الحكم أثار موجة من الغضب والاستنكار في المناطق العربية، لا سيما في مصر، وتدخلت انجلترا احتجاجًا على حكم الإعدام، فتراجعت تركيا عن الحكم وقامت بإرساله إلى مصر.
وبشكلٍ عام كانت فترة حكم الثالوث هي بحق النهاية للدولة العثمانية؛ إذ شَّن هؤلاء حملة شعواء على أي معارضة لهم، واتسمت الفترة بين (1913م) و(1918م) بأنها فترة حكم قمعي قاسٍ، حتى أن البعض وصفها بأنها قريبة الشبه من عصر الإرهاب في الثورة الفرنسية، هذا العصر الذي اتسم بالإعدام بالمقصلة والقضاء على المعارضة، وسيادة الصوت الواحد.