الدراما التركية:

تصدير النموذج التركي

مع مطلع القرن الحادي والعشرين حدثت تطورات مهمة وخطيرة على الساحة العربية في مجال القوى الناعمة، لم ينتبه الكثيرون إليها في حينها، ونقصد بذلك غزو الدراما التركية للفضائيات العربية، ومن ثم دخول كل بيت في منطقتنا العربية. هل نتذكر مسلسل “نور” التركي في عام؟! (2005م)، وكيف تم تغيير اسم بطل المسلسل وتقديمه باسم عربي واسع الانتشار هو “مُهَنَّد” ليسهل اختراق الوعي العربي؟ ومنذ ذلك الوقت عملت الدراما التركية على ترسيخ نجاحها عبر سلسلة متواصلة من المسلسلات الاجتماعية مثل “العشق الممنوع” وصولاً إلى “عودة مهند”، حيث أصبح “مهند” هو إله الرجولة في نظر النساء، و”سمر” هي فينوس آلهة الجمال! وانبهر الجميع بالمناظر الطبيعية الخلاَّبة التي تظهر في المسلسلات التركية، تلك المناظر التي وُظِفَت بدقة للترويج للسياحة العربية إلى تركيا، حتى أضحت إستانبول مزارا للعرب لا سيما في الصيف، مما أثر بشدة على السياحة بين الدول العربية. 

وكان ذلك في حقيقة الأمر مقدمة وخلفية ناعمة لتصدير ما عرف آنذاك بـ”النموذج التركي” في السياسة والإسلام إلى المنطقة العربية، وهكذا كانت بداية تصدير “الحلم التركي” من خلال القوى الناعمة، وبالذات الدراما التركية التي حاولت سحب البساط من تحت أقدام مثيلتها المصرية والسورية والخليجية، وكادت في هذا المجال أن تنتصر بالضربة القاضية، لولا الانتباه بعد ذلك إلى خطورة هذه الظاهرة.

وللتأكيد على أهمية توظيف الدراما التركية في تصدير النموذج التركي إلى المنطقة العربية نذكر هنا شهادة “إبراهيم قالين”، مستشار الرئيس التركي للشئون الخارجية؛ إذ يذكر أنه قبيل عام 2011م:

“خلال زيارتين منفصلتين للعالم العربي سُئِلت عن المسلسلات التركية التي تُعرَض على شاشات الفضائيات العربية، وفُوجئ مُضِيفيِ بأنني لا أعرف الكثير عن هذه المسلسلات أو أبطالها أو قصصها. وكان أحد الأصدقاء العرب يحتفظ على هاتفه الجوال بمقدمة المسلسل التركي الذي تُرجِم إلى العربية بعنوان “سنوات الضياع”، ومع نفس موسيقى المقدمة الأصلية استبدل المنتجون العرب كلمات الأغنية بكلمات عربية مما صبغها بصبغة عربية يصعب معها التفرقة بين ما هو ما عربي وما هو تركي!!”

ويرى “قالين” من وجهة نظره أن الدراما التركية تغلغلت في العالم العربي وكأنها تُعَبِر عن مشكلات المجتمع العربي!!

وهكذا عانت الدراما العربية بشكلٍ عام، والمصرية بشكلٍ خاص، من منافسةٍ غير متكافئة، إذ وقفت الدولة التركية وراء دعم الدراما التركية وتوزيعها، لا سيما في المنطقة العربية، وكانت هذه في الحقيقة محاولة للقفز فوق التاريخ، إذ نسى هؤلاء تاريخ السينما المصرية وكيف كانت رائدةً للسينما التركية، وأن مجيء الفنانين الأتراك إلى القاهرة كان بمثابة شهادة ميلاد فنية لهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين جاء إلى مصر أحد أهم مخرجي السينما التركية وهو “وداد عرفي”، حيث قام بإخراج عدة أفلام في مصر واندمج في عالم الفن المصري قبل أن يعود إلى تركيا بعد ذلك، ويكتسب شهرة هناك.

وفي نفس الفترة تقريبًا جاءت إلى مصر واحدة من أشهر الممثلات التركيات “إفرانز هانم”، وأدت أدوارًا في عدة أفلام مصرية. وكانت المطربة التركية الشهيرة “أمل صايين” تُلَقَّب بأنها أم كلثوم الترك. وفي الستينات ذهب الممثل الشهير “فريد شوقي” إلى تركيا وقام بتمثيل عدة أفلام مع كبار نجوم السينما التركية، واحتفى به الوسط الفني التركي، ولا تزال مجموعة أفلام فريد شوقي من أهم أعمال السينما التركية. فلا بُد من عودة الحياة من جديد إلى الدراما العربية، لأن عودتها هي عودة إلى التاريخ.