دراما تركية أم غزو فكري؟
إنّ الإنسان بطبعه لابد أن يتعلم، ويتثقف بثقافات مختلفة غير منهجية، من خلال ما حوله في الكون، أو ممارسات خاصة، وتعرضه للمواقف ومعالجته لها، ومن كل ما يمكن أن يتعلمه من المجتمع بصفته فرد من جماعة.
ولاكتساب المعارف أنواعٌ: منها ما هو بطريقة مباشرة، وهذا النوع يتضح في التعليم المنهجي، أو كإسداء النصح بشكل مباشر. ومنها ما هو بطريقة غير مباشرة، وهذا لا يمكن إلا أن يأتي مستترًا أو متواريًا، عن طريق القدوة مثلاً، أو لفت الانتباه بتلميح دون تصريح للصحبة أو الرفقة الطيبة، وقد يكون عن طريق البث العرضي الذي يخفي معه قصد توجيه فكر محدد يرمي إلى إثارة أفكار أو أخلاقيات لعادات وتقاليد مجتمعية خارجة حتى عن طبيعة من يتعمد ذلك التوجيه لأهداف معلنة وأخرى خفيةً.
ذلك يمكن أن يكون من خلال وسائل سمعية أو مشاهدات بصرية قد تغني عن شرح علمي يملأ المجلدات.
هي مصطلح سياسي صاغه الأمريكي “جوزيف ناي” من جامعة هارفرد، واستخدمه لوصف “القدرة على الجذب دون الإكراه أو استخدام القوة وسيلةً للإقناع”. ويضرب المثل بالدراما كونها أداة فنية لها أهداف سياسية غير مباشرة يمكن تصديرها لدعم الانتشار الناعم إقليميًّا ودوليًّا.
و”القوة الناعمة” أو “سياسة الدبلوماسية الناعمة” وإذا أردنا أن نعطي أمثلة على معنى تلك القوة هي: مفهوم يتجلى بأوضح أشكاله وأهدافه في نموذج توظيف الدراما التركية في العالم العربي، بما يخدم أهداف السياسة الخارجية التركية.
لقد لوحظ في السنوات الأخيرة بأن الدراما التركية مارست ذلك النموذج بقوة، إذ تمكنت من جذب المواطن العربي اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا فضلاً عن التعاطف مع قضاياها الداخلية والخارجية. وأصبحت وسائل للإقناع بأن تلك المشاهد وما تحمله من ماديَّات ماهي إلا تحليق عن أرض الواقع.
تؤكد الكاتبة التركية بلين أوزقان أن الدراما التركية كان لها تأثير “القوة الناعمة” للتعريف بتركيا وثقافتها وتاريخها في العالم الخارجي، ولكن المشاهد الواعي يدرك بأن التعريف ليس إلا للجذب وتغيير الحقائق التي يعيش عليها المجتمع، فالدراما مثلاً تجمع بين المتناقضات وهي محاولة مراوغة لتغيير نمط السلوكيات السليمة، فمثلاً تجمع في بعض المشاهد بين المساجد التاريخية والحانات، وتقديم المشروبات الروحية – كما يُطلق عليها – مع الوجبات الرئيسة وبين التحضر والأصول القروية والتقليل من شأنها، والمشاهد الأكثر استفزازاً هي مشاهد الخروج عن التحكم في لحظات الغضب، ثم الخروج سريعاً دونما اكتراث بأن المتلقي في الداخل أو الخارج سيتأثر. ومن الأحوال الغريبة بأن معظم الدراما التي وُجِّهَت للمتلقي العربي كانت تستهدفه ولا تجد لها في قنواتهم الخاصة بهم أدنى أثر. ناهيك عن استمرارية المسلسل إلى أكثر من جزء وكل جزء يحمل عددًا من الحلقات ولابد أن يدخل في ذلك الاستعراض في طبيعة المكان أو أساليب العيش غير المنطقية، وبالتالي قد تدور أكثر من خمس إلى ست أو سبع حلقات حول مشهد يتعمد تفصيله بطريقة مملة. تلك لمحات عن المسلسلات الدرامية، لتأتي بعدها المسلسلات التاريخية، وتقديم أعمال أسطورية تجنح إلى الخيال أكثر منه إلى الواقع.
ذكر الكاتب الأمريكي نيك فيفاريللي أن تركيا تحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الدراما الأكثر انتشاراً، إذ صدّرت الأعمال الدرامية التركية إلى 142 دولة حول العالم عام 2016م بالمقارنة مع 50 دولة عام 2012م. وارتفعت إيرادات المسلسلات التركية من 300 مليون دولار عام 2015م إلى 350 مليون دولار عام 2016م، وتهدف صناعة السينما التركية إلى الوصول إلى رقم مليار دولار عام 2023م. تلك -بكل تأكيد- استراتيجية ممنهجة تفتقد المضمون الهادف، ليحل محله المضمون الربحي والتوجيه الفكري بغزوه نفسيًّا.
الكاتبة التركية فايزه جوموشلو أوغلو أوضحت أمراً لافتاً للانتباه وهو أن بعض الشباب الخليجيين لجأوا إلى استخدام بعض العبارات والكلمات التركية متأثرين بالدراما التركية، وفي لبنان لم يختلف الأمر كثيراً، إذ شهدت السنوات الأخيرة تزايد اهتمام الشباب بدراسة اللغة التركية كتابة وتحدثاً، للإسهام في ترجمة الأغاني التركية والأعمال الفنية الدرامية سواء الأفلام أو المسلسلات، والالتحاق بسوق الدبلجة للأعمال الدرامية.
رغم أن الاكتساح كان عامًّا، ولا يمكن أن ننكره، كانت محاولات سياسة التتريك رغبة السلاطين العثمانيين، خاصة في آخر عهدهم، فهل هي عودة لإحياء تلك السياسة عن طريق العثمانيين الجدد؟