الدراما التركية

لـ "الأغبياء" فقط...

و"البالغين" أحيانًا

تخلت الدراما التركية منذ زمنٍ مبكر عن كثير من المحاذير بحسب تصنيفاتها، لذا كانت تجربتها طويلة وذات أثر في المحيط الداخلي بين الأتراك تحديدًا، الأمر الذي جعل منها مهمةً بدرجة كبيرة بالنسبة لصناع القرار التركي، لقدرتها على توجيه الرأي العام، لذلك كانت منعطفاتها متوائمة مع المشروع السياسي، سواءً في المراحل المبكرة في دعم القومية التركية وتأصيل المنطلقات العامة التي رسمتها السياسة، أو التقلبات الحزبية بحسب تداولها وتحولاتها.
منذ سنة (2001م) التي تم فيها تأسيس الحزب المتطرف في تركيا “العدالة والتنمية”؛ بدأت خططه للسيطرة على الدراما التركية وتوجيهها وفق مصالحه السياسية، وهذه الخطط رُسمت على مراحل لتطبيقها والاستفادة منها.
المرحلة الأولى
الإعجاب
بدأت هذه المرحلة بعد أن تولى “العدالة والتنمية” السلطة سنة (2003م)، بحيث تم التركيز على الثورة الدرامية التركية وبثها خارج محيطها التركي، وتحديدًا في العالم العربي، عندما تم تسهيل وصولها بعمليات الدوبلاج المدعومة، وعرضها على القنوات الفضائية الأشهر عربيًا. وخلال هذه المرحلة لم تتنبه وسائل الإعلام المرئية في العالم العربي إلى أنها تقوم بعملية ربط عميقة بين المشاهد العربي والدراما التركية، والترويج لهذه الثقافة بحبكتها وقدراتها الإنتاجية العالية، التي كانت تستحوذ على ميزانية عالية من مصروفات الحزب الحاكم.
لم تكن أهداف الأعمال الدرامية واضحة في بدايتها؛ إذ ركزت على الحبكة واستعراض القدرات الفنية، وإبراز نجوم الأتراك ليكونوا أبطالاً في الذائقة العربية. لذلك أصبح لهذا الهدف صدى واسع ومتمدد بين بعض المجتمعات العربية، حتى انعكس على زيارات هؤلاء النجوم إلى بعض العواصم العربية، ليعملوا على محاكاة هذا الهدف ودعمه، فأقيمت لهم الاحتفالات وحضور المعجبين ودفعت لهم الملايين، خاصةً في العواصم الأكثر إعجابًا بالدراما والمشروعات التركية.
وتأكيدًا لتحقيق الأثر الدرامي في المجتمعات العربية؛ تأسست شركات متخصصة في دبلجة الأعمال التركية إلى العربية، ما أحدث انتشارًا واسعًا ومتنوعًا لها في القنوات الفضائية العربية. وعلى رغم ردة الفعل من التركيز على المحتوى العاطفي وانعكاساته على المجتمعات؛ إلا أن أعمالهم لاقت رواجًا أكبر مما كانت عليه.
المرحلة الثانية
الاختراق
بعد أن تحققت النتائج الكبرى للدراما التركية في العالم العربي منذ (2003م)؛ أصبح الهدف السياسي أكثر إلحاحًا في تطبيقات الحزب الحاكم في تركيا، ففي سنة (2011م) جاء أول عمل درامي مدروس وموجه بمسلسل “حريم السلطان”، هذا العمل الذي عُمل بطريقة مزدوجة لربط المشاهد وفي الوقت نفسه تحقيق الصورة النمطية التي يريد الحزب تكريسها.
فالعمل يحتوي على زخم كبير من القصص الدرامية والعاطفية التي تستهدف الشرائح كافة تقريبًا، إضافةً إلى الصورة التاريخية التي تخدم المشروع التركي، في محاولة تصوير الدولة العثمانية كدولة إسلامية، بعيدًا عن حقيقتها العرقية، ونظرتها الدونية تجاه العرب. ومن ثَمَّ أصبح السلطان سليمان القانوني الذي كان بطلاً لهذا العمل متجذرًا في الذهنية التركية والعربية كرومانسي ورجل عادل، على الرغم من أن الحبكة الدرامية تطرقت إلى القتل الذي اقترفه في حق الأبرياء، بينما لم يصوره السياق إلا نادمًا قتل بقصد الحفاظ على نظام دولته، وفي الوقت نفسه متأثرًا بعاطفته تجاه جاريته الروسية (هُرام). ومع ذلك بات سليمان بعد هذا المسلسل رمزيةً للحب والبطولة والسياسة.
اقتنعت السياسة الحزبية بقدرة الدراما على التأثير، وسرعة انتشارها بين الشرائح التي استهدفتها، وكان العرب أهمها، كي يكون عالمًا سهل الاختراق لقبوله الثقافة التركية العثمانية، وإقناعه بسيطرة الجنس التركي عليه تاريخيًا.
المرحلة الثالثة
الثمرة الخبيثة
بعد أن تحققت أهداف المرحلة الثانية؛ أصبحت الأمور مهيأة للثالثة التي كانت أكثر جرأة وتزييفًا للتاريخ، والتي تمثلت بإنتاج عمل درامي استمر لمدة خمس سنوات من (2014م) إلى (2019م) متسلسلاً بأجزاء طويلة، وهو مسلسل “قيامة أرطغرل”. حيث صورت الدراما التاريخية التركية والد مؤسس إمارة العثمانيين الأتراك بالصورة المثالية، وتناولته على أنه مسلم، بينما يثبت مؤرخو الأتراك أنفسهم وثنيته
الجرأة في هذا العمل كانت واضحة، باعتبار أنه إضافةً لتزييف إسلام أرطغرل؛ كانت أكثر صراحةً في تثبيت تصوف العثمانيين بربط شخصية البطل بمحيي الدين بن عربي الصوفي، الذي جاء في العمل بمثابة الرجل الصالح الذي يحمل النبوءات، والقادر على تغيير الأقدار في مشاهد كثيرة من العمل.

صعدوا بكذبة "أرطغرل" وسقطوا بـ "عثمان".

لقي هذا العمل رواجًا وتأثيرًا كبيرًا في العالم العربي، ودُعِم من قِبَل الأجنحة السياسية المؤدلجة في العالم العربي، والداعمة للسياسة التركية الإخوانية، إضافةً إلى المتابعة الدقيقة من قبل الرئيس التركي أردوغان الذي يتباهى بحضور مواقع تصوير المسلسل.
ولكي يصبح هذا العمل مقبولاً بما فيه من شركيات ومظاهر صوفية وطقوس شامانية؛ جُندت له أصوات الإسلاميين الحركيين المتطرفين، والمنتمين إلى جماعة الإخوان الإرهابية، وصاروا جزءًا من العملية التسويقية للمسلسل، باعتبار أنه حقق كثيرًا من أهدافهم في خلخلة السياسة العربية وتمكين الاختراق التركي.
تزامن مع “قيامة أرطغرل” إنتاج مسلسل “عبدالحميد الثاني” سنة (2017م)، هذا المسلسل الذي يرتبط بشكلٍ مباشر بتحقيق أهداف سياسية أيضًا، لكنه هذه المرة لم يحقق النتائج التي حققها “أرطغرل” باعتبار أن عبدالحميد لم يزل مرتبطًا بالذهنية العربية بسياسته الاستبدادية، حتى لقب بـ “السلطان الأحمر”، إضافةً إلى أنه عرف عنه أنه التصق بالمشروع الإسلامي بهدف تثبيت سلطنته وإنقاذ دولته المريضة.

"عبدالحميد الثاني": لم ينجح أحد.

المرحلة الرابعة
السقوط
أرادت الدراما التركية المُسَيَّسَة حاليًّا التأكيد على تحقيق نجاحات في العمق العربي من خلال أعمالها، لكنها جُوبهت بردة فعل التوازن العربي في رفض هذا الأسلوب وفضحه. لذلك لم يكن القائمون على مسلسل “قيامة عثمان” -الذي يعد امتدادًا لـ “قيامة أرطغرل”- يتوقعون الفشل الذريع الذي مني به، ذلك نتيجة زيادة وعي المتلقي العربي، وكشف الأهداف الحقيقية من هذه الأعمال الدرامية لتأكيد التغلغل التركي. لا سيما أن العربي بات يرى الدماء العربية تُسال بيد الأتراك في ليبيا وسوريا والعراق، وفي المقابل يظهرون أنفسهم بهيئة الأبطال الأوائل.
مُنيت المرحلة الرابعة للسياسة الدرامية بنكسة حقيقية، لذلك تراجعت معها القدرات الإنتاجية، خاصةً مع معاناة تركيا الاقتصادية نتيجة سياستها التوسعية، ورفض العالم أجمع لها؛ لكونها أصبحت مفضوحة وماثلة أمام الجميع بصورتها السوداوية. ويتضح ذلك من خلال ضعف الهمة الإنتاجية وبؤس العمل الأخير “قيامة عثمان”، مع أنهم اختاروا له أحد أشهر ممثليهم تأثيرًا في العالم العربي “بوراك”، الذي يتمتع بمواصفات رومانسية.