تركيا وإيران:

محاور جيوسياسية في خدمة الأجندة الأمريكية في المنطقة العربية

التطور هو السمة الملازمة للتاريخ، وأساس تغيُّر المجتمعات والعمران، وهو أساس بناء الحضارات وسقوط أخرى، وتغيُّر القوانين والعادات والعلاقات، ولقد مسَّ التطور مختلف الميادين السياسية والعمرانية والعسكرية، وهو ما انعكس على تطور طرق التوسع والتمدد العسكري والسياسي من الأسلوب الترابي الكلاسيكي إلى “التمدد بالوكالة”، ووصولًا إلى “القوة الناعمة” التي تجعل القوى الكبرى تتحكَّم في ناصية القرار السياسي للدول.

في هذا السياق ساهمت الجغرافيا في توجيه السلوك السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، التي ساهم بُعدها الجغرافي في تأخير ظهورها على المشهد الدولي، قبل أن تدفعها الإكراهات الاقتصادية إلى البحث عن أسواق ومناطق نفوذ جديدة.

ويمكن القول بأن سقوط جدار برلين ونهاية القطبية الثنائية (مع بعض التحفظ) قد ساهم في تقوية الدور التركي-الإيراني في المنطقة، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية ترى في الدولتين “محاور جيوسياسية” يجب دعمها ومساندتها ضد التعبيرات القومية التي قد تُفجرها من الداخل.

في هذا الصدد أشار مستشار الأمن القومي الأمريكي زبجنيو برجنسكي إلى هذا الواقع الجيوسياسي بالقول: “ومهما يكن الأمر، فإن تركيا وإيران هم دولتان محوريتان جيوستراتيجيتان ومهمتان في المنطقة، فتركيا تؤمِّن الاستقرار في منطقة البحر الأسود، وتسيطر على مداخله، وتستمر حتى الآن في تقديم الترياق لـ “التطرف”، كذلك فإن إيران تُؤمِّن على نحو مماثل الدعمَ المسبِّب للاستقرار في النسيج السياسي المتنوع لآسيا الوسطى، وهي تسيطر على الساحل الشرقي للخليج (العربي)، وبالرغم من العداء الإيراني الراهن للولايات المتحدة الأمريكية، فهي تمثل حاجزًا لأي تهديد روسي في المدى البعيد للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج (العربي)”.

ساهمت نهاية الحرب الباردة في تقوية الدور التركي - الإيراني في المنطقة.

ويمكن القول بأن ما قاله بريجنسكي يمثِّل فقط جانبًا من الدور المحوري الذي تقوم به أنقرة وطهران في “التمكين” لأجندة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ورغم أن الدولتين لا تنظران إلى واشنطن بعين الحب والود، إلا أن القاعدة التي أصَّل لها تيار الإسلام السياسي، والتي تقول بضرورة تدبير “لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت”، دفعت عَرَّابِي هذا التيار إلى التماهي مع الأجندة الأمريكية لتحقيق مصالحهما المرحلية في المنطقة.

لقد رأت واشنطن أن المدخل لوضع اليد على المنطقة ينطلق من ضرورة خلق حالة من “التوازن السلبي”، يسمح لها بالتحكم في الجانبَين التركي والإيراني، بما يخدم استمرار “مبرِّرات التدخل” خاصة في المنطقة العربية.

من هذا المنطلق يبقى التحالف الأمريكي-الإيراني نقطة ثابتة في إستراتيجية البلدين رغم ادِّعاء العداء الذي يُظهِره “تقيةً” الطرفان فوق الطاولة، في الوقت التي تظل خيوط الاتصال والتنسيق تحت الطاولة مستمرة، بل وترقى إلى مستويات إستراتيجية من التعاون وتبادُل الأدوار في المنطقة.

وهنا يرى فريق من الباحثين أن “الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم دائمًا إيران مطية من أجل أمْرَكة المنطقة، أو جعلها في وضع يناسب المصالح الأمريكية”.

إن الانقلاب الخميني على الشاه محمد رضا بهلوي، ورغم إسقاطاته على البيئة الإستراتيجية الإقليمية والدولية، إلا أنه لم يَمَسَّ صلب العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما عكسته أزمة الرهائن الأمريكية، حين قامت إدارة ريغان بالتنسيق مع الخميني عن طريق ابن أخيه رضا باسنديدا في مدريد، ليتم إطلاق سراح الرهائن بعد ساعتين فقط  من نجاح رونالد ريغان في الفوز بالكرسي البيضاوي، ونفس التنسيق فجَّرَته فضيحة إيران-غايت عندما قامت واشنطن بتسليح إيران (عن طريق إسرائيل) في عز الحرب العراقية-الإيرانية.

على الجانب الآخر لا يقل التحالف التركي-الأمريكي في المنطقة أهميةً عن نظيره الإيراني الأمريكي، حيث ترى واشنطن بأن تركيا (الصوفية) مؤهَّلة لاختراق البيئات السُّنية، وبالتالي توجيه المشترك العقدي السُّني لما يخدم الأجندة الأمريكية في المنطقة، وهنا نسجل بأن تركيا كانت دائمًا تضع سياستها رهن إشارة التوجيهات الأمريكية في مقابل إطلاق يدها في المنطقة ومَدِّ نفوذها نحو المنطقة العربية.

إن هذا السلوك الوظيفي لا تُنكره حتى تركيا نفسها، حيث يرى فريق منهم بأن أنقرة كانت تتحرك تحت المظلة الأمريكية، ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن “الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية كانت ترى في تركيا دولة وظيفية تؤدِّي ما يُطلَب منها حتى لو لم يكن ذلك مطابقًا لمصالحها”.

  1. زبغنيو برجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى، ط2 (واشنطن: مركز الدراسات العسكرية، 1999).
  2. قراءة في مقال للكاتب الصحفي التركي هاشمت بابا أوغلو، نُشر على موقع ترك برس بعنوان “كاتب تركي: مؤامرة أمريكية إيرانية على دول المنطقة وأمريكا لم ولن تحارب إيران”، على الرابط:  https://www.turkpress.co/node/41353
  3. محمود عثمان، مقالة نُشرت على شبكة الأناضول بعنوان “العلاقات التركية الأمريكية من “شراكة إستراتيجية” إلى “إدارة خلافات”، 16 نونبر 2021، على الرابط: العلاقات التركية الأمريكية من شراكة إستراتيجيةإلى إدارة خلافات” (aa.com.tr)