الأتراك وصناعة الخديعة
"الدراما التاريخية"
التاريخ هو المخزن العظيم الذي تحفظ فيه الأمم والشعوب تراثها وأمجادها الخالدة ليكون فيه العبر والعظة لها، فهو مخزون ثري بالتجارب والوقائع والأحداث التاريخية، التي يمكن أن يستفاد منها في محاكاة الواقع المعاش بل حتى في استشراف المستقبل وبنائه على أسس تاريخية عميقة. ويمكن أن يُسْتَغَلَّ ذلك المخزون العريض في تمرير الأفكار والرؤى والأجندات السياسية والدينية والحزبية من خلال تضخيم الحدث التاريخي واستنطاقه وعرضه بثًّا تلفزيونيًّا أو سينمائيًّا بصورة مزيفة ومشوهه للحقيقة التاريخية، مما يؤثر في عقل المتلقي تأثيرًا مباشرًا وقد يعتقد أن ما شاهده حقيقة تاريخية مُسَلَّمة لا شية فيها، وتكتمل تلك الصورة المشوهة في ذهن المتلقي إذا اجتمع حسن أداء التمثيل وجودة الإخراج التلفزيوني أو السينمائي، الذي -في العادة- يقع تأثيره مباشرة في نفس الملتقي فتلتهب العواطف والمشاعر متأثرة بالمشاهد الدرامية والأكشن، وقد تتفاعل معها بعيدًا عن صحة المعلومة أو كذبها أو حقيقتها التاريخية، إن ذلك السلوك العاطفي يُقَدِّره المخرجون والمنتجون السينمائيون فمن خلاله يمكنهم قياس نجاح الأعمال الدرامية أو فشلها، والتاريخية منها على وجه الخصوص.
وفي الواقع نجحت الدراما التركية إلى حد ما في صناعة مثل تلك الأفلام والمسلسلات المتدثرة بالأسلوب الهوليدي المشوق للمشاهد، وجذبت الكثير من الجماهير إلى بعض من مسلسلاتها، التاريخية منها خصوصًا، فالإنسان بطبيعته تشده القصص إذا كانت ممزوجة بالأساطير والخرافات التي لا يمكن تصديقها. فعلى سبيل المثال المسلسل التاريخي التركي “قيامة أرطغرل” واستكماله بمسلسل “قيامة عثمان”، اللذان حصلا على مساحة كبيرة من المشاهدات. و هنا ليس دوري بطبيعة الحال الحديث عنهما بصفتي خبير سينمائي أو متخصص في الدراما الفنية، وإنما باعتباري مختص في التاريخ يحاول قراءة المشهد من زاوية علمية بحتة، فقد لوحظ على المسلسل منذ البدايات منحاه نحو إبراز العنصر التركي كقومية متميزة بالقوة الخارقة الجبارة التي لا تقهر. وظلت تغذي هذه السِّمة بارزة وبقوة معظم حلقات المسلسل، وإن صح التعبير هي تغذية مستدامة لذهن المتلقي بتفوق العنصر التركي دون غيره من خلال البطل الذي لا يقهر”السوبرمان”، الذي يتحدى كل القوى والصعاب في محيط آسيا الصغرى، ولا يهمنا هذا الشيء فهذا شأن المخرج والمنتج والمؤلف، وشأن المؤسسة الإعلامية التي ترعى مثل ذلك التوجه.
وعمومًا ما يهمنا أنه لا يصح أن يكتب ويعد سيناريو وقصة لمسلسل أو فيلم سينمائي مبني على تزييف التاريخ والكذب فيه لمصلحة نجاح العمل أو تضليل المشاهد بطريقة غير مباشرة ليرتبط التاريخ في الذهن بالواقع المشاهد في المسلسل. وهذا في رأينا كارثة عظمى يجني بها على التاريخ وأهله، والمصيبة الأخرى أن يبنى هذا العمل الدرامي على حسب آراء المشاهدين، أو على التوقعات المستقبلية للمسلسل وحسب ما يرغب فيه المخرج أو المنتج أو المؤسسة المعنية بذلك. وبهذا يتضاعف التضليل والتزييف الذي اتخذ من التاريخ شعارًا له. ومما هو معلوم أن المصادر التاريخية عندما تحدثت عن شخصية “أرطغرل” بطل المسلسل التاريخي التركي، بينت أنه كان من أعيان القرن السابع الهجري /الثالث عشر الميلادي، وأنه انتقل مع قبيلته هروبًا من التتار نحو بلاد الروم، حيث دولة السلاجقة المعروفة بسلاجقة الروم، وأثناء مسيرتهم تلك غرق والده سليمان في نهر الفرات في الحادثة المشهورة عند بلدة جعبر، وسواء صحت هذه الرواية التي تناقلها المؤرخون العثمانيون بكل ما فيها من أساطير أو لم تصح، فإن الفترة من القرن السابع الهجري/ القرن الثالث عشر الميلادي، قد شهدت تدفقًا كبيرا لعناصر إثنية مختلفة إلى الأناضول. وفي الواقع لا توجد مصادر تاريخية عثمانية يمكن الاعتماد عليها فيما يتعلق بأصل الشعب العثماني والسلالة الحاكمة فيه أو تاريخه خلال القرن الثامن الهجري/ القرن الرابع عشر الميلادي، فلم تكن للعثمانيين سجلات مكتوبة عن تلك الفترة التي سبقت فتح القسطنطينية. وهناك من المؤرخين من يشكك في صحة انتساب العثمانيين إلى قبائل الأوغوز وقصة هذه القبائل وزعيمها بأنها اختلاق من المؤرخين. وأن كل الأساطير المرتبطة بها تعزى إلى القرن التاسع الهجري/ القرن الخامس عشر الميلادي. وهو رأي معتبر جدًّا لدى المؤرخ أحمد عبد الرحيم مصطفى، وجاء ذلك الرأي بناءً على تنوع الهجرات إلى مناطق الثغور، التي شكلت بدورها خليطًا ومزيجًا متباينًا من الأعراق واللغات، ويمكننا القول هنا أن ما بني على باطل في الأصل فهو باطل.
حاول المسلسل التاريخي “قيامة أرطغرل” التأكيد على نقطة مهمة، وهي أن العنصر التركي كان له قصب السبق في نشر الإسلام في القسطنطينية، وما حولها وأنه دخل بعد الفتح العثماني لها عام857ه/ 1453م، وهذا من التزييف الحقيقي للتاريخ، فالعرب المسلمون منذ عهد الخلفاء الأمويين أرسلوا عدة حملات عسكرية خلال الأعوام54-61ه/ 674-680م و98-99 ه/717 – 718م، من أجل فتح مدينة القسطنطينية. وكانت الحملة الأخيرة التي قادها القائد مسلمة بن عبد الملك الأهم بين تلك الحملات؛ إذ ضرب المسلمون حصارًا بحريًّا حول المدينة لمدة عام. غير أن تلك الحملة فشلت في تحقيق أهدافها. وقد أشار المؤرخ حاتم الطحاوي في أحد مقالاته العلمية إلى القول: بالرغم من الفشل العسكري الذي لحق بتلك الحملة، فقد نجحت في تحقيق نصر معنوي بعد أن اشترط القائد مسلمة على القائد البيزنطي ليو الثالث الإيسوري عام99ه/ 718م، ضرورة بناء مسجد للمسلمين داخل أسوار مدينة القسطنطينية مقابل انسحاب قواته والعودة الى بلاد الشام. مما اضطر ليو إلى الموافقة على ذلك بعد أن أنهكته عملية الدفاع عن المدينة. وهكذا تمكن العرب من فرض المسجد الإسلامي الأول في القسطنطينية عاصمة دولة الروم منذ الربع الأول من القرن الثامن الميلادي/ نهاية القرن الأول الهجري.
وينقل لنا الطحاوي أيضًا في مقالته عن العديد من المصادر التاريخية البيزنطية والعربية المهمة وجود هذا المسجد داخل القسطنطينية. وأن أقدم من تحدث عن ذلك هو الإمبراطور ميخائيل السابع (301 -348 ه/ 913 – 959م) في كتابه “إدارة الإمبراطورية البيزنطية” حيث ذكر “أن مسلمة بن عبد الملك هو الذي أمر ببناء مسجد للمسلمين أمام المعسكر الإمبراطوري داخل القسطنطينية”. والذي عرف فيما بعد المصادر الاسلامية باسم “دار البلاط”، الذي كان مخصصًا من أجل احتجاز كبار أسرى المسلمين وهما نواة الحي الإسلامي بالقسطنطينية منذ القرن الأول الهجري/الثامن الميلادي.
لقد ظل مسجد المسلمين بالقسطنطينية يؤدي دوره، ويرتاده المصلون والمسافرون من التجار والرحالة المسلمين حتى القرن الثالث الهجري/ القرن العاشر الميلادي. وهو ما بيَّنَتْه الرسالة التي بعث بها بطريرك القسطنطينية نيكولاس مستيكوس إلى الخليفة العباسي المعتز بالله، التي أشار فيها إلى حسن رعايته لمسجد القسطنطينية، ونتيجة للمكانة التجارية الكبرى لمدينة القسطنطينية عن تدفق أعداد التجار المسلمين ومكوثهم لفترة طويلة تبلغ العشر سنوات متصلة بالقسطنطينية. والذي يؤكد ذلك أنه كان الحي الإسلامي في القسطنطينية من أوائل الأماكن التي تعرضت إلى هجوم الحملة الصليبية الرابعة عليها عام600ه/ 1204م، الأمر الذي أدى إلى تدمير المسجد القديم بعد إضرام النيران فيه. وقد سعى السكان البيزنطيون المجاورون للحي الإسلامي إلى مد يد المساعدة إلى السكان المسلمين في محاولة منهم لصد الهجوم اللاتيني الوحشي الذي دمَّر وحرق أربعة مساجد إسلامية أخرى.
ويفهم من ذلك كله أن الوجود الإسلامي في مدينة القسطنطينية كان منذ فترة متقدمة قبل أن تطأ أقدام العثمانيين في الأساس الأناضول، وإن مجرد اللعب بالعواطف وتجييش المشاعر الدينية بتزييف التاريخ لا يخدم الحقيقة التاريخية المجردة بل يفسدها، فالتاريخ كتاب مفتوح للجميع ولا بد أن يقرأ بحياد بعيدًا عن الأفلام والمسلسلات التي تشوِّه جمال صورته لأهداف ومطامع خاصة.