بحجة المظلومية السياسية والتاريخية

مداخل الاختراق الإيراني لدول الجوار العربي

الغريب في السياسة والإستراتيجية الإيرانية أنها تنظر للعالم من خلال حدودها الغربية العربية، الذين تكرههم وتتمنَّى زوالهم، في حين عُمقها وعِرقها وتراثها ولغتها يمتد شرقًا إلى خراسان وبلوشستان وأوزبكستان، وليس غربًا حيث عرب العراق والشام والجزيرة العربية، إنها حالة مستعصية على الفهم في البعد السياسي، لكنها مفهومة في بُعدها التاريخي، والكراهية المتوارثة التي دمرت إيران قبل أن تدمر غيرها، فبينما تفرَّغت الأمم للتقدُّم والتطور، ونسيت إمبراطورياتها التاريخية التي دفنها التاريخ قبل مئات السنين، لا يَزال الفرس يحلمون باستعادة عرش كسرى ذات يوم، فلا هم الذين استعادوه، ولا هم الذين طوَّروا من بلادهم.

الأطماع الإيرانية ليست وليدة للحظة السياسية الفارقة التي تلت الثورة الإيرانية عام (1979)، وهي لحظة قلبت منطقة الشرق الأوسط تمامًا، وحوَّلَته من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع آخر عربي إيراني، ومع أن العرب لم يفكِّروا يومًا في الاحتكاك بإيران أو الصراع معها منذ دخول الإسلام إليها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، إلا أن الإيرانيين هم من يحملون الأطماع والخصومة.

الإيرانيون يُخطِّطون للتمدُّد خارج حدودهم التاريخية، والعرب على عكسهم تمامًا، لم يحاولوا حتى استعادة أراضيهم المنهوبة من دول التخوم الأعجمية في الأحواز والأناضول، إلا أن ذلك لم يشفع لهم، بل إن الأطماع في أراضيهم وتفتيت بنيتهم السياسية والاجتماعية هدف رئيس للإيرانيين وغيرهم.

مظلومية سياسية وتاريخية:

إيران دولة توسعية تعيش على مظلومية تاريخية سياسية، بسبب الانتصار العربي في معركة القادسية وانهيار ملك كسرى، وبالتالي انتهاء الدولة الساسانية للأبد. هذه المظلومية السياسية التي سبغت الوجدان الإيراني الفارسي نجدها تظهر لاحقًا على شكل مظلومية دينية، ففي العام (1500) وما بعده، بعدما نشر الصفويون المذهب الإثنى عشري بصيغته الفارسية بالقوة، وعزَّزوا من خلاله المظلومية الدينية التي استخدموها، وما زالوا يستخدمونها في التغلغل وأسْر الوجدان العربي، وهي في حقيقة الأمر لم تكن سوى حركة سياسية لإبقاء المعركة مفتوحة مع الخصوم العرب.

لقد أخذت الحرب الإيرانية ضد العرب مسارَين مفتوحين؛ الأول سياسي ثوري، والآخر طائفي مذهبي، يسعيان في نهاية الأمر لاستعادة أحلام الإمبراطورية الفارسية من فوق ظهر هذين الجسرين، وفي طرُقِهم التوسعية استطاع الإيرانيون الفرس أول الأمر الاستيلاء على ساحل الأحواز العربي بمساعدة البريطانيين، وبذلك سيطروا على ضفة واحدة من الخليج العربي، وما زالوا يخططون للقفز إلى الضفة الأخرى الممتدة من البصرة إلى مسقط، وهو حلٌّ تحوَّل إلى عمل على الأرض من خلال الوكلاء بالنيابة الذين يعملون لمصلحة إيران، أو من خلال إثارة الفوضى الإقليمية التي تُشعِل نيرانها إيران كلما انطفأت.

ومع هذا يبرز سؤال مهم: هل تختلف سياسة ملوك إيران الذين سقط حكمهم مع رحيل الشاه عن الملالي؟؟ الجواب: قطعًا لا، فالبحرين على سبيل المثال وقُبَيل الثورة الإيرانية كانت محطَّ أطماع إيران الشاه، بل كاد أن يبتلعها ويحوِّلها إلى إقليم تابع له بحجة استعادة أملاك فارسية، وكذلك الجزر الإماراتية التي تم احتلالها في عهد الشاه.

الاختراق الناعم.. أم الاختراق الخشن:

عملت إيران الخميني منذ استيلائها على الحكم في طهران على بلورة توجُّهات القوى السياسية الحاكمة فيها باتجاه المشاركة الفاعلة بسياسات الإقليم، وهذا ما تؤكِّده الوثيقة المستقبَلية التي أعدَّها مجلس تشخيص مصلحة النظام عام (2005)، لتحويل إيران إلى قوة إقليمية مركزية.

أما على الصعيد القانوني فقد تضمَّن الدستور الإيراني نصوصًا تدعو للإشادة بالثورة الإسلامية باعتبارها حركة تغييرية جديدة في المنطقة، أسهمت في مسار النهضة العقائدية الإسلامية الأصيلة، كما بيَّن في ديباجته نصوصًا واضحة على أهمية تعزيز ولاية الفقيه في العالم الشيعي، ومحاربة الرجعية والديكتاتورية، وتعميم القيم الإسلامية، ومساعدة المستضعَفين في الأرض – كما تزعم-  وبعد أن ترسَّخَت أركان حكم “الولي الفقيه” كمؤسسة واضحة في النظام السياسي الإيراني بعد وفاة الخميني برز هناك تياران سياسيان رئيسان في إيران يدعوان إلى أخْذ إيران لمكانتها الإقليمية.

الأول: التيار المحافظ المتشدِّد، الذي يمثِّله أساسًا رجال الدين المسيطرون على مؤسسة ولاية الفقيه ومجلس تشخيص مصلحة النظام وقيادة الحرس الثوري، الذين يحكمون بطريقة نظام الحوزة العلمية الدينية، وقد ظهرت مواقفهم المتشددة في مسائل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والملف النووي الإيراني، والأزمة السورية، ودعم حزب الله اللبناني، وتقوم مبادئهم على فكرة استخدام البُعد العقائدي المستند إلى قاعدة الإسلام الثوري كعامل مؤثر في سياسة إيران الخارجية، وجعل إيران قلب العالم الإسلامي الشيعي، وبرفض التواجد الأجنبي في المنطقة.

الثاني: تيار يدَّعِي الدبلوماسية، ويُسمِّي نفسه بالإصلاحي، يتبادَل الدور مع الأول ويقدِّم صورة إصلاحية سياسية للإيرانيين.

سياسة القضم المتزامنة:

لعبت الأوضاع الداخلية التي مرَّت بها كل من العراق، والبحرين، واليمن، دورًا كبيرًا في التأثير على استقرارها واستمرارها كدول وطنية، إلا أن التدخلات الإيرانية وتدهور البناء الاقتصادي والاجتماعي في بعض تلك الدول أدى إلى أن تتحول إلى أرضية جاهزة للعبث بها من إيران، التي عملت على بناء سياسة يمكن أن نطلق عليها سياسة القضم المتزامنة، وهي التمدد الفكري الذي يلحقه تمدُّد عسكري عبر الوكلاء المحليين.

وكان ذلك واضحًا وجليًّا في لبنان أولًا، التي كانت قفزة مهمة لإيران، حيث كانت الحرب الأهلية عاملًا فعلًا في الثمانينات، ووجود رأس حربة جاهز – الأحزاب ذات الميول الإيرانية مثل أمل – وهو ما ساعد لاحقًا في بناء تنظيم حزب الله الإرهابي، الذي تقدَّم ليكون وكيلًا لإيران في لبنان، واستطاع خنق مفاصل الدولة اللبنانية.

في اليمن أيضًا كان الزيديون المتطرفون- وهم لا يشملون كل المذهب الزيدي- يَغْشَون إيران، وهناك تم تحويلهم لعملاء ومندوبين أنشؤوا الذراع الحوثية التي تشكَّلت بدايةً كمدارس دينية ومذهبية، واستطاعت أن تتحوَّل سريعًا إلى تنظيم مسلح.

العراق الذي بقي بمنأى عن إيران حتى سقوط بغداد العام (2003)، احتضنت إيران فيه أحزابًا وتنظيمات ربَّتْها على مدى عِقدَين، وعند السقوط دفعت بها إلى واجهة العراق، وخلال أشهر قضت تلك المليشيات على وجه العراق العربي، أو كادت تفعل.

لم يكن ذلك الاختراق الوحيد للعالم العربي، ففي البحرين تدخلت إيران بقوة، وحاولت الانقلاب على الدولة فيه بمساعدة ميليشيات متطرفة، ولا تزال إيران تصر على التدخل في البحرين، وتحويله إلى منطقة سيولة قابلة للانهيار ذات يوم.

يقول الكاتب صفوت جبر في بحث منشور له تحت عنوان “التمدد الإيراني في الوطن العربي.. بين الاختراق السياسي وحلم المد الشيعي”: “صرَّح الخميني حال وصوله لطهران فبراير 1979: سنُصدِّر “الثورة” إلى كل العالم، حتى يعلم الجميع لماذا قمنا بالثورة، لقد كان هدفنا الاستقلال بمعنى التحرُّر من القيود والتبَعية للشرق والغرب، والحرية، إن ثورتنا يجب أن تصدَّر إلى كل أنحاء العالم، تصدير الثورة هو أن تستيقظ كل الشعوب والحكومات”، هكذا صاغ آية الله الخميني الأيديولوجية الإيرانية الجديدة.

إن التحوُّلات والثورات العربية ساعدت إيران في التدخل في شؤون بعض الدول العربية، ويتَّضح ذلك جليًّا في التمدد الإيراني في -كثير من الدول العربية-، فكلَّما زادت الطائفية والحروب الأهلية كلما نشط الدور الإيراني والحرس الثوري في بلدان الوطن العربي، وفي الوقت نفسه ضعف المؤسسات والمنظمات العربية أعطى إيران فرصة ذهبية لإحلال الدور العربي هناك وإبداله بالإيراني.

التحولات والثورات ساعدت إيران في التدخل في شؤون بعض الدول العربية.

تجيد إيران لعبة الكَرِّ والفَرِّ السياسي مع الجانب العربي، ففي الوقت الذي تتمدَّد فيه في اليمن وسوريا والعراق، وتقتل معارضيها من الأكراد ومجاهدي خَلْق الإيرانية؛ نجدها تُغازِل العرب من خلال تصريحات بشأن عمل مصالحة أو اتفاقيات إستراتيجية، ولكنها في الوقت نفسه تساند المعارضة المسلحة في الدول العربية من خلال ميليشياتها.

  1. خالد المطلق، “الغزو الإيراني للدول العربية.. الخطط والمآلات والحلول”، موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة (2021).

 

  1. صفوت جبر، “التمدُّد الإيراني في الوطن العربي.. بين الاختراق السياسي وحلم المد الشيعي! السياسة الخارجية الإيرانية منذ الثورة الإسلامية 1979″، مجلة أضواء للبحوث والدراسات، بغداد (2021).

 

  1. محمود الجازي، “النفوذ الإيراني في المنطقة العربية على ضوء التحولات في السيادة الأمريكية تجاه المنطقة 2003-2011” (عمَّان.. الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2014).

 

  1. وصفي عقيل وخالد الدباس، “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي.. دراسة حالة العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة اليرموك -الأردن، مج.45، ع.4 (2018).