حين التزم الحياد رغم مرارة الذاكرة التاريخية
أخلاق الملك عبدالعزيز ومروءته في الحرب العالمية الأولى كانت مخالفة لسوء العثمانيين وسياستهم الخبيثة
في العام (1915) كانت الحرب العالمية الأولى تطل على العالم بمنظرها الكئيب، بكل شرورها وآلامها، فالعثمانيون الذين اعتمدوا كثيرًا على سمعتهم السابقة باعتبارهم إمبراطورية وصل نفوذها إلى وسط أوروبا بدأت تنحسر وتتحول إلى الرجل المريض، كما أنها لم تفلح في البقاء في منطقة الحياد بين دول المحور والحلفاء، وكان انخراط العثمانيين في الحرب كمن قتل نفسه بنفسه، والأقاليم التي استعمروها كانت تنسلخ منهم واحدة تلو الأخرى، فضلا عن الدول التي تخلوا عنها طواعية في صفقات فاشلة من أجل الحفاظ على إمبراطوريتهم العثمانية الآفلة، فليبيا وتونس والجزائر باعها العثمانيون لفرنسا وإيطاليا، وفلسطين للإنجليز، ولم يكن ذلك إلا ثمنًا يسيرًا للجرائم الكبرى والمغامرات غير المدروسة التي قام بها العثمانيون، وعدم فهمهم العميق لتذمر الشعوب التي أنهكها احتلالهم، وأصبحوا يتوقون للنجاة من هيمنة الباشوات والسلاطين وأدواتهم المحلية.
السعوديون… شعلة الأمل
في وسط الجزيرة العربية وعلى أعتاب العام (1916) كان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود قد استرد نجد والأحساء، في طريق توحيد أجزاء الوطن التي كان المؤسس يعمل عليها في أطراف الجزيرة العربية، تلك الإنجازات السريعة التي حققها الملك الشاب دفعت الدول العظمى والإقليمية المحيطة بالجزيرة العربية إلى الالتفات إلى نفوذه وحجم إنجازه السريع الحاسم، ولذلك استطاع الملك عبدالعزيز تحقيق اعترافات البريطانيين والعثمانيين بنفوذ دولته الناشئة.
السياسة المحورية لدى المؤسس غلبت تمدد القوى الدولية، وحافظت على مكتسبات الوطن خلال مرحلة التوحيد.
الأوضاع في الجزيرة العربية وتداعيات الحرب العالمية الأولى
أضحت المدينة المنورة بين عشية وضحاها مسرحًا لثالثة معارك التحرير العربية ضد المحتل العثماني (1914) وما بعدها، فبعدما استطاع الملك عبدالعزيز توحيد القصيم والأحساء وطرد العثمانيين منهما، ألهم نصره العظيم العرب في جميع الأرجاء وحفزهم لسرعة التخلص من المحتل العثماني، لذلك تحولت المدينة المنورة إلى ساحة معارك استمرت طويلاً مع العُنْصُرِيِّ التركي فخري باشا، وانتهت بطرده وحاميته التركية من الجزيرة العربية.
الملك واستراتيجية الوحدة
بقي الملك عبد العزيز على مواقفه المركزية التي تأسس وتربى عليها وعمل من أجلها، فقد كان وحدويًّا عربيًّا قبل أي شيء آخر، يؤمن بأن أبناء الوطن هم من يجب أن يديروا شؤونهم، وهم من يحلون اختلافاتهم ومشاكلهم دون تدخل الأجنبي في بلادهم، لقد كانت كل جهود المؤسس ومعاهداته ومراسلاته وتحالفاته تبني كل يوم لبنة جديدة في طريق توحيد الوطن السعودية في الجزيرة العربية. لذلك لم يستسلم لمحاولات العثمانيين جرّه في حربهم الخاسرة وتحالفاتهم الضعيفة، في الوقت الذي كانوا يحاولون فيه تعطيل المشروع الوطني السعودي بدعم خصومه وأعدائه من كل جانب.
استشراف المؤسس للمستقبل
جنَّب الملك عبدالعزيز وطنه ويلات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، مُشكلاً موقفًا يحمي فيه أبناء وطنه ويوحد كلمتهم، فقد بعث المؤسس رسائل عدة إلى الولاة والحكام المحليين في الجزيرة العربية، يدعوهم إلى رأيٍ واحد بعد التطورات والتداعيات الخطيرة إثر قيام الحرب العالمية، لكن أحدًا لم يستجب، وكانت الردود متباينة متضادة تقدم المصلحة الذاتية والموقف الشخصي للقوى المتصارعة، ولا تذهب بعيدًا نحو المصلحة العامة، كما كان يريد الملك عبدالعزيز بما يصب في مصلحة الوطن كافة.
يصف المؤرخ خير الدين الزركلي تلك المبادرة الثاقبة التي قام بها الملك عبدالعزيز “لم تفلح الدعوة، لكن تفتحت لها أنظار من يعرفون قيمتها، فبادر الإنجليز إلى إبلاغ الملك بأنهم جيرانه وأنهم يرغبون في التفاهم معه، وأرسل الألمان عن طريق حلفائهم العثمانيين رسائل مشابهة، ومع ذلك احتفظ عبد العزيز بحياده”.
محاور سياسة المؤسس:
أولاً: في المحور الداخلي؛ بدأ الملك عبدالعزيز في تعزيز سلطته على نجد والأحساء، واستتباب الأمن فيهما بعدما كانت عرضة للفوضى والفشل تحت إدارة العثمانيين في القصيم والأحساء، وحوَّلها إلى أُنموذج للاستقرار السريع دفع البلدات والقبائل والأقاليم الأخرى لمراسلته والانضمام تحت لوائه.
ثانيًا: أما محور الجزيرة العربية بمفهومها الواسع فقد وقف الملك مع جيرانه موقف الحكمة والنظرة البعيدة، لكن تصرفاتهم وأخطاءهم الجسيمة ومواقفهم السياسية الهشة مكنت الملك الشاب المؤمن بالوحدة خيارًا لا بديل عنه إلى استرداد الأقاليم السعودية كافة.
ثالثًا: من حيث المحور الدولي، فقد كان الملك عبدالعزيز قارئًا مُلهَمًا للسياسة الدولية وتغيراتها، وعرف كيف ينتقل ببلاده في دروب الظروف الدولية الوعرة خلال توازنات الحرب العالمية الأولى وبعدها، خاصة أن الحرب كانت كونية لا قبل لوطنه ولا للعرب كلهم بها، تلك الدول العظمى كانت لها طرق إمداد ونفوذ تحيط بالجزيرة العربية، وأي اصطدام بها أو الوقوع في إشكالٍ معها يعني المغامرة والدخول في مواجهة لا قبل لأحد بها.
العثمانيون حاولوا تعويض خسائرهم في أوروبا والقوقاز وأرمينيا بالاندفاع نحو الجزيرة العربية، وإبقائها تحت احتلالهم، بينما كانت الجزيرة تحاول الانعتاق والنهوض من كبوة استمرت قرونًا من الزمن تحت وطأة الاستعمار العثماني، وجزءٌ من تلك الجهود العثمانية كان موجهًا نحو النفوذ البريطاني عدو الألمان، ولذلك دفع الأتراك ثمنًا باهظًا لتحالفهم مع الألمان، ولعدم إدراكهم عواقب الأمور وعدم تقييمهم الأحداث فقد اختاروا الطرف الخاسر في معظم حروبهم ومنها الحرب العالمية الأولى.
حاول العثمانيون إيقاع الملك عبدالعزيز للانخراط معهم في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء، ودعم المجهود العسكري العثماني، وراسلوا ولاتهم والحكام المستقلين، لكن ذلك جاء متأخرًا جدًا فقد تغول الأتراك في دماء العرب كثيرًا، وتعاملوا بالبطش والجبروت، وكان عليهم أن يدفعوا فواتير تسلطهم على الأمة العربية وما عانته من ويلات المرتزقة والمحميات التركية.
كان الموقف الدولي وتعقيداته وارتهان المستقبل به صعبًا على الساسة، أما الملك المؤسس فبلاده بدأت للتو تلملم أطرافها، ولا تزال بقية الأقاليم تعيش في فوضى أو مرتهنة لولاة عثمانيين تعمهم الفوضى وقِلَّة الإدراك، وهو في سعيه لاستعادة ملكه كان يدير الأمر بكثير من الحصافة والصبر والدهاء، وهنا تبرز الحكمة في التعامل مع كل موقف على حده، فلا تفريط في المكتسبات، ولا اندفاع مع أحد، وفي الوقت نفسه رغم ضعف الدولة العثمانية، لم يحارب الملك عبدالعزيز السلطنة، ولم يقف في صف الحلفاء، بل تعامل معها بما تقتضيه مصلحة بلاده وشعبه في الأقاليم التي استردها، وخلال فترة الحرب بقي الملك محايدًا رغم المرارة التي تجرعها الجميع من المحتل العثماني، لكن الملك تعامل معهم طوال فترة الحرب العالمية الأولى بأخلاقه لا بأخلاقهم.
- أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط 5 (الرياض: منشورات الفاخرية، 1981).
- تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).
- حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935م).
- خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985م).