حينما منعوا دخول الطباعة

العثمانيون عطَّلوا الحراك الثقافي تزييفًا للهويَّة العربية

عرفت أوروبا اختراع الطباعة على يد جوتنبرج عند منتصف القرن الخامس عشر، ويُعتبَر هذا الاختراع من أهم الاكتشافات الإنسانية، إلى حد أن بعض المؤرخين يعتبرونه بداية التاريخ الحديث، مع معرفة الإنسان للمطبعة والطباعة، ويرجع ذلك في نظرهم إلى الآثار العميقة على تطوُّر المجتمعات الإنسانية، وانهيار بنية المجتمع الإقطاعي للعصور الوسطى، مع زوال المخطوط، وانتشار الكتاب المطبوع الذي فتح آفاقًا جديدة للمعرفة الإنسانية، وشيوع التعليم والتعلُّم بعدما كان محصورًا في فئة رجال الدين فقط طيلة العصور الوسطى.

وبينما كانت حركة الطباعة تتقدم بخطى ثابتة في أوروبا منذ ذلك الوقت، تأخرت الطباعة في الشرق الإسلامي، الذي كان يخضع معظمه لحكم الدولة العثمانية، لفترات طويلة، والمثير في الأمر أن الطباعة دخلت إلى إسطنبول أواخر القرن الخامس عشر، لكن الإدارة العثمانية لم تهتم كثيرًا بالاستفادة من هذا الاكتشاف الثقافي الكبير، والأغرب من ذلك أنهم سمحوا بدخول المطبعة على يد بعض العلماء اليهود الذين رحلوا إلى العاصمة العثمانية، لكن هذه المطبعة كانت ذات حروف عبرية، تقوم بطباعة الكتب الدينية اليهودية، وذلك في عام (1494).

كما سمحت السلطات العثمانية للرعايا الأرمن بإنشاء مطبعة خاصة بهم وبحروفهم في عام (1567)، وبعد ذلك سمحت للرعايا اليونانيين بتأسيس مطبعة خاصة بهم، وبالحروف اليونانية في عام (1627).

وعلى الرغم من سماح الدولة العثمانية لرعاياها اليهود والأرمن واليونانيين بإنشاء مطابع لهم، إلا أنها رفضت، بل حرَّمَت على رعاياها الأتراك والعرب هذا الحق في تأسيس مطابع لهم، وكانت الحجة الواهية هي قدسية الحرف العربي، وبالتالي عدم جواز تأسيس مطابع ذات أحرف عربية، وينبغي أن نتذكر أن اللغة التركية العثمانية كانت تُكتب بأحرف عربية.

ويذكر بعض مؤرخي حركة الطباعة في الشرق أن السلطان العثماني بايزيد الثاني أصدر في عام (1485) أمرًا يُحَرِّم على رعاياه المسلمين استخدام المطبعة، أو تأسيس مطبعة بالأحرف العربية، وعندما اعتلى السلطان العثماني سليم الأول الحكم عمد إلى تجديد الأمر السابق الصادر من أبيه، فأصدر في عام (1515) أمرًا بضرورة التمسك بحظر إنشاء مطبعة بأحرف عربية.

ويرى خليل صابات: “أن السبب الذي حَدَا بسلاطين آل عثمان إلى الوقوف في وجه المطبعة والتصدي لنشاطها هو الخوف من أن يعمد أصحاب الغايات والأغراض إلى الكتب الدينية فيحرفوها ويشوِّهوها”، لكن صابات يشير إلى السبب الحقيقي من وراء منع وتحريم السلاطين العثمانيين للمطبعة بالنسبة لرعاياهم المسلمين، وهم أغلبية سكان الدولة: “أن المطبعة يمكنها أن تخفض أثمان الكتب، فتجعلها في متناول أكبر عدد ممكن من الناس، فيحل العلم محل الجهل؛ لأنه لا يخفى على أحد أن الأمة المتعلمة تأبى الضيم، ويصعب حكمها حكمًا استبداديًّا”.

لم يسمح العثمانيون بدخول المطبعة للعالم العربي خلال أربعة قرون.

ويُجمِع المؤرِّخون على أن الطباعة بالأحرف العربية تأخرت كثيرًا في الدولة العثمانية؛ إذ لم تتَّخذ إجراءات حقيقية في هذا الشأن إلا مع بداية الربع الثاني من القرن الثامن عشر، ويرجع ذلك إلى شخصية شهيرة في تاريخ الفكر العثماني، وهو إبراهيم أفندي متفرقة، الذي كتب على يديه بداية الطباعة في إسطنبول بالأحرف العربية.

وينحدر إبراهيم من أصول مجرية، حيث وفد إلى العاصمة العثمانية في العشرين من عمره، واعتنق الإسلام، ودخل في خدمة السلطنة، وقُدِّر لإبراهيم متفرقة أن يكون من كبار دعاة الإصلاح في إسطنبول، ويُذكر لإبراهيم متفرقة أنه كتب رسالة بعنوان “وسيلة الطباعة”، أوضح فيها أهمية الطباعة، وضرورة انتشارها في بلاد المسلمين، حتى لا يتخلَّفوا عن ركب الحضارة، الذي قطعت أوروبا فيه شوطًا كبيرًا، وساهم في ذيوع فكرته أنه في الوقت نفسه أشار السفير العثماني في باريس “محمد أفندي” إلى أهمية ما رآه في باريس من شيوع الطباعة وانتشار الكتب.

وعلى إثر ذلك صار هناك جدل كبير في إسطنبول حول هذا الشأن، ومدى جواز الطباعة بالأحرف العربية من عدمه، وأدى هذا الجدل إلى صدور فتوى في عام (1726) بجواز تأسيس مطبعة بالأحرف العربية، مع منع طباعة الكتب الدينية، وبناءً على هذه الفتوى وافق السلطان العثماني على تأسيس المطبعة، وبالفعل تأسست في عام (1727) مطبعة إسطنبول التي عُرفت بمطبعة إبراهيم متفرقة؛ نظرًا لإشرافه عليها، هذه المطبعة التي لعبت دورًا مهمًّا في الحياة الفكرية، على الرغم أنها توقفت لفترات متقطعة لمدة خمس وأربعين سنة لأسباب متعددة؛ إذ قامت المطبعة بطباعة العديد من الكتب في مجالات شتى مثل التاريخ والعلوم البحرية والجغرافيا، فضلًا عن السير والقواميس للغات العربية والتركية والفرنسية والفارسية.

ويمكننا أن ندرك مدى أهمية المطبعة وأثرها المباشر في تغيير النمط التقليدي للدولة العثمانية من خلال أحد أهم الكتب التي طبعتها المطبعة، وهو كتاب إبراهيم متفرقة نفسه، وعنوانه “أصول الحكم في نظام الأمم”؛ حيث قدَّمه إلى السلطان الجديد محمود الأول عام (1731)، في محاولة لإصلاح نظام الحكم العثماني، وهو ما كانت تخشاه القوى التقليدية في الإدارة العثمانية.

وبالقطع ترتب على هذا التأخر الفادح في دخول المطبعة إلى إسطنبول تأخُّر مثيل في دخول المطبعة إلى الولايات العربية المحتلة من الدولة العثمانية، وإذا أخذنا حالة القاهرة، التي كانت تعتبر المدينة الثانية في الدولة العثمانية بعد إسطنبول، لم تعرف المطبعة إلا مع مطلع القرن التاسع عشر؛ إذ جاءت المطبعة العربية إلى القاهرة في مَعِيَّة الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801)، حيث حرص نابليون على إحضار مطبعة عربية معه لإصدار الأوامر ونشرها وتوزيعها على الأهالي، وتوضح المصادر التاريخية أن كل أهالي القاهرة ومعظم علماء الأزهر لم يروا من قبل هذا الاختراع العجيب بالنسبة لهم، وعلينا أن ننتظر قليلًا حتى عصر محمد علي ونشأة مطبعة بولاق، قبل الحديث عن دخول حقيقي للمطبعة في ثاني مدينة في الدولة العثمانية.

هكذا أدَّت النظرة القاصرة للسلاطين العثمانيين الأوائل، ورجال الدين التقليديين، إلى حرمان المسلمين والولايات العربية من الاستفادة من هذا الاكتشاف الثقافي الكبير الذي عرفته أوروبا منذ منتصف القرن الخامس عشر.

  1. أكمل الدين إحسان أوغلي، الدولة العثمانية.. تاريخ وحضارة (إسطنبول: منظمة المؤتمر الإسلامي، 1999).

 

  1. خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، ط2 (القاهرة: دار المعارف المصرية، 1966).

 

  1. سيد مصطفى، نقد حالة الفن العسكري والهندسة والعلوم في القسطنطينية، تحقيق وتقديم: خالد زيادة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979).

 

  1. إبراهيم عبده، تاريخ الطباعة والصحافة في مصر خلال الحملة الفرنسية 1798- 1801، ط2 (القاهرة: المطبعة النموذجية، د.ت).