بينما كان العثمانيون يقفون موقف المتفرج

حاول نابليون بونابرت العبث بالهوية المصرية وتدمير مصادر الثقافة العربية

الاحتلال آفة العصور ونكبة الأوطان، ومصدر تخلُّف الشعوب وفقرهم، وتقسيمهم، وهدم وحدتهم الترابية والوطنية، ولم يدخل الاحتلال يومًا لخدمة شعب أو بناء حضارة أو تشييد عمران، وإنما كان العنوان هو الاستعباد والاستغلال، والتوسع والانتشار.

الاستعمار واحد ولو تعدَّدَت أشكاله، فلا فرق بين استعمارٍ عثماني تركي أو فرنسي أو بريطاني أو فارسي، فكلها جاءت استجابةً لاعتبارات عِرقية أو اقتصادية أو توسعية، لذلك ارتبطت الدول الاستعمارية بجميع أنواع الاستلاب الحضاري والاستهلاك بكل أنواعه.

وتناول ظاهرة الاستعمار الفرنسي يُحِيلنا على المسؤولية الأخلاقية والقانونية للدولة العثمانية، ودورها في تسهيل بدايات التغلغل الأجنبي في المنطقة، وذلك بفضل الامتيازات التي مُنِحت لفرنسا من طرف السلطان العثماني سليمان القانوني.

على أن هذه الامتيازات “اتخذت شكلًا خاصًّا بها، وذلك بعد توقيع اتفاقية تجارة وصداقة أُبرِمَت سنة (1535) بين السلطان العثماني وفرنسوا الأول ملك فرنسا، نصَّت على منح بعض الامتيازات لرعايا فرنسا، كالحرية الدينية، وبعض التسهيلات التجارية لهم في أراضي الدولة العثمانية، وسُمِّيَت تلك الاتفاقية منذ ذلك الوقت بـ”نظام الامتيازات الأجنبية”. 

الجدير بالذِّكر أن الأطماع الفرنسية في مصر بدأت تتبلور على عهد الملك لويس السادس عشر، خاصة مع بدايات الحديث عن الأطماع الروسية لاقتطاع مناطق شاسعة من الدولة العثمانية، وهنا نجد وزير البحرية الفرنسي آنذاك دي سارتين يقول: “إن احتلال مصر هو الطريقة الوحيدة لحفظ تجارتنا في البحر الأبيض، ومتى توطَّدَت أقدامُنا في مصر صِرنا أصحاب السيادة على البحر الأحمر، وصِرنا نستطيع أن نهاجم إنكلترا في الهند، أو ننشئ في تلك الأصقاع متاجر ننافس بها الإنجليزي”.

عملت فرنسا على التخطيط لاحتلال مصر منذ فترة مبكرة بعد أن أفسح العثمانيون لهم المجال والتساهل في حرية الملاحة سنة (1535).

وارتباطًا بنقطة البحث، فإن احتلال نابليون لمصر لم يَحِد عن هاتِهِ القاعدة الاستعمارية، بل كان “خطة مدروسة مدبَّرة في كل صغيرة وكبيرة، بل كانت في حقيقة الأمر حملة صليبية استعمارية بحتة، وبكل أبعاد هذه العبارة وتنوُّع مجالاتها”.

وبالتالي فإن الادِّعاءات المثالية التي برَّر بها نابليون احتلال مصر تسقط تِباعًا أمام حقيقة أنها حملة استعمارية هي امتداد للبنية السلوكية لبونابرت.

لجأ نابليون إلى أشد الحِيَل مكرًا ودهاءً، حتى أنه أوهم المصريين بأنه على عقيدة التوحيد، ولذلك وجدنا أنه كان يبدأ رسائله بالبسملة وعبارة التوحيد “لا إله إلا الله وحده لا شريك له”، وهو التكتيك الذي لجأ إليه الزعيم النازي هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما جعل تيارات الإسلام السياسي في مصر تُروِّج لإسلام هتلر، بل إن البعض أطلق عليه “الحاج أحمد هتلر”.

غير أن نابليون، وبمجرد احتلاله مصر سنة (1798)، فعل بها ما يفعله الغزاة المستعمرون، واستباح أرضها وشعبها، وحجرها وشجرها، وقد يكون من الصعوبة بمكان أن نرصد جميع جرائم نابليون في مصر في مقالة بحثية مهما حاولنا رصد أهمها، أو اقتصرنا على ذِكر أخطرها.

وفي هذا الصدد نرصد جرائم نابليون في حق مركز الثقل الديني لمصر، ممثلًا في الجامع الأزهر، حيث أمر نابليون في الواحد والعشرين من شهر أكتوبر (1798): “اقتحام الجامع الأزهر، فضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات وتعمَّدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرَّروا عليه المدافع والقنبر… وتفرَّقوا بصحنه ومقصورته، وربَطوا الخيل بقِبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكَتبة… ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدَثوا فيه وتغوَّطوا، وبالوا وتمخَّطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عَرّوه، ومن ثيابه أخرجوه”.

لقد شكَّلت مصر مصدر استفزازًا للثقافات الغربية، وهدفًا لتحقيق أطماعهم الاستعمارية، وهنا كان القضاء على الشخصية المصرية مدخلًا أساسيًّا لإخضاع البلاد للحكم الفرنسي المباشر.

اجتهد الفرنسيون، في هدم المميزات الحضارية والسلوكية لمصر، فركَّزوا على مراكز الثقل الثقافي فيها، وهدم الشخصية المحافظة للمجتمع المصري، وطمس معالم الحضارة والعمران، وذلك حين “أصعدوا إلى القلعة مدافع ركَّزوها بعدة مواضع، وهدموا أبنية كثيرة، وشرعوا في بناء حيطان وكرانك وأسوار، وهدموا قصر صلاح الدين، ومحاسن الملوك والسلاطين، ذوات الأركان الشاهقة والأعمدة الباسقة”.

ويمكن القول إن قِصَر المدة التي قضاها الفرنسيون في مصر، وإن تركت بعض آثارها على التداول اليومي للمصريين، إلا أنها لم تؤثر على الشخصية الرئيسة للمجتمع، وعلى المرجعية العربية والإسلامية.

  1. أحمد عوض، نابليون بونابارت في مصر (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
  2. زينب عبد العزيز، مائتا عام على حملة المنافقين الفرنسيس (القاهرة: مكتبة وهبة، 2005).
  3. سلطان الأصقه، “الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية دعامة للنشاط التبشيري في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر”، المجلة التاريخية المصرية، مج: 44، ع. 44 (2007).
  4. مجموعة مؤلفين، المرجع في تاريخ مصر المعاصر (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2009). 
  5. هنري لورنس وآخرون، الحملة الفرنسية في مصر، ترجمة: بشير السباعي (القاهرة: سيناء للنشر، 1995).