بتنازلاتها القانونية لصالح الدول الأوروبية
الدولة العثمانية أورثت البلاد العربية امتيازاتها الأجنبية
تعتبر مسألة الامتيازات الأجنبية من النقاط المثيرة للجدل في تاريخ الدولة العثمانية، نظرًا للظروف التاريخية التي صاحبت إصدارها، فضلًا عن تداعياتها على ولايات الدولة، وبالقطع في مقدمتها الولايات العربية.
ترجع الظروف التاريخية وراء إبرام أول معاهدة من معاهدات الامتيازات الأجنبية إلى عهد السلطان سليمان القانوني؛ حيث تم عقد تحالف شهير مع فرنسا؛ لمواجهة أقوى ملوك في أوروبا آنذاك شارل الخامس؛ ملك النمسا وهولندا وألمانيا وإسبانيا، وقد استطاع القانوني تأمين الحماية لفرنسا ضد شارل، بفتحه جبهة المجر؛ ليشغل شارل الخامس عن فرنسا، وتأمين الأسطول العثماني للشواطئ الجنوبية لفرنسا على البحر المتوسط.
لكن الأمر المثير للدهشة هنا أنه بدلًا من أن يطلب سليمان القانوني من فرنسا مقابلًا إزاء خدماته وتحالفه معها، وإنقاذه لها، قدَّم هدية جديدة لفرنسا؛ بعقد معاهدة امتيازات لصالح فرنسا، وهي المعاهدة التي كانت بدايةً لعقد سلسلة معاهدات أخرى، ومع دول أخرى، وهي المعاهدات التي عُرفت باسم “الامتيازات الأجنبية”.
ويرى البعض أن معاهدة الامتيازات الأجنبية لم تكن في صالح الدولة العثمانية، بل في صالح فرنسا: “اشتملت المعاهدة على ستة عشر بندًا، أكثرها إجحافًا بحق العثمانيين هي البنود الرابع والخامس والسادس والسابع، فقد أتاحت لفرنسا تحقيق مصالح تجارية وسياسية وقضائية لم تكن تحلم بها”؛ إذ ينص البند الرابع على أنه “لا يجوز سماع الدعاوى التي يقيمها الأتراك أو جُباة الخراج، أو غيرهم من رعايا جلالة السلطان ضد التجار أو غيرهم من رعايا فرنسا، أو الحكم عليهم فيها ما لم يكن مع المدَّعين سندات بخط المُدَّعى عليهم، أو حجة رسمية صادرة من القاضي الشرعي أو القنصل الفرنسي”.
كما نصَّت بنود الامتيازات على أنه “لا يجوز محاكمة الفرنسيين ومستخدميهم وخادميهم فيما يخـتـص بالمسائل الدينية أمام السنجق بيك أو الصوباشي، أو غيرهم من المأمورين، بل تكون محاكمتهم أمام الباب العالي”، وتسامح البند في حال سرقة الفرنسي للعثماني فيذكر: “لو تعاقد واحد أو أكثر من رعايا فرنسا مع أحد العثمانيين، أو اشترى منه بضائع، أو استدان منه نقودًا، ثم خرج الشـخـص من الممالك العثمانية قبل أن يقوم بما تعهد به، فلا يُسأل القنصل الفرنسي، أو أقارب الغائب، أو أي شخص فرنساوي آخر على ذلك مطلقًا، وكذلك لا يكون ملك فرنسا ملزمًا بشيء”.
وبالقطع كل هذه البنود إن دلَّت على شيء فإنما تدل على أن هذه الامتيازات تقدِّم تنازلات قانونية تتعلق بالسيادة العثمانية على أراضيها، وبديهي أن هذا انعكس سلبًا على حقوق الرعايا من العرب ممن هم تحت السلطة العثمانية.
حاول بعض المؤرخين الدفاع عن موقف الدولة العثمانية، وتبرير ما قدمَته من امتيازات مجانية لفرنسا، ويأتي على رأس هؤلاء المؤرخ التركي يلماز أوزتونا الذي يقول: “معاهدة- الامتيازات- مُساعدة لتنمية فرنسا عسكريًّا واقتصاديًّا، والحيلولة دون وقوعها لقمة سائغة لألمانيا وإسبانيا”.
مصر الحديثة لم تتخلَّص من تنازلات العثمانيين إلا منتصف القرن العشرين بعد سقوط الدولة العثمانية بربع قرن.
كذلك يرى البـعـض أن هذه المعاهدة كانت لتنمية فرنسا اقتصاديًّا وعسكريًّا، ولكن كيف وافق السلطان على الشرط الفرنسي بجعل هذه الامتيازات مفتوحة أيضًا لإنجلترا وبابا روما، إن شاؤوا تمتعوا بها، بينما كانت الدولة العثمانية تخوض حربًا مصيرية معهما، وبصفة خاصة بابا روما حليف شارل الخامس ملك النمسا، والعدو الأول للدولة العثمانية؟ ويتهكم المؤرخ العراقي قيس العزاوي على ذلك الموقف قائلًا: “هل أراد – السلطان العثماني- أن يُنمي أعداءه حتى يَحُدُّوا من اتساع ديار الإسلام في أوروبا؟! سؤال لم يزَل يبحث عن جواب”.
ويؤكد العزاوي كلامه بذكر رأي المؤرخ اليوناني ديمتري كيتسيكس: “إن الامتيازات الأجنبية حطـمـت اقتصاد الإمبراطورية العثمانية بتحطيمها النظام الضريبي القائم على حماية التجارة المحلية ضد المنافسة الأجنبية”.
وكان من الطبيعي أن ينتقل هذا التأثير السيئ للامتيازات الأجنبية على أحوال الولايات العربية، التي عانت كثيرًا من جراء ذلك، وبالقطع لن نستطيع تتبُّع هذا الأثر السيئ في جميع الولايات العربية في هذه المقالة الصغيرة، لأن الأمر تم تناوله في العديد من الكتب والمجلدات، ولكننا سنحاول إلقاء الضوء على حالة مصر في هذا الشأن؛ إذ كبَّلَت هذه الامتيازات الأجنبية أوضاع مصر الاقتصادية والقانونية، وساعدت هذه الامتيازات على تغلغُل رأس المال الأوروبي في الاقتصاد المـصـري، كما قيَّدت الأوضاع القانونية في مصر، من خلال إنشاء المحاكم القنصلية، حيث تدخل القناصل الأجانب في النزاعات القضائية، ثم إنشاء المحاكم المختلطة، وهي محاكم غير وطنية، في حالة النزاع بين مواطن وأجنبي.
وحتى بعد ثورة (1919)، وإعلان استقلال مصر عام (1922)، وقيام المملكة الخديوية في مصر، أُجبِرَت مصر على قبول ميراث الدولة العثمانية، واستمرار الامتيازات الأجنبية، التي شكَّلَت قيدًا ثقيلًا على الاستقلال الحقيقي لمصر، وجاهدت مصر كثيرًا من أجل إلغاء الامتيازات الأجنبية، ونجحت في الحصول على موافقة بريطانيا على ذلك، في مقابل عقد معاهدة التحالف عام (1936)، ودخلت مصر في مفاوضات مع الدول صاحبة الامتيازات، وعقد مؤتمر مونترو عام (1937)، الذي انتهى إلى إلغاء الامتيازات تدريجيًّا، من خلال فترة انتقالية تنتهي عام (1949).
هكذا تهاونت الدولة العثمانية في أمر عقد معاهدات الامتيازات الأجنبية، وأدَّى ذلك إلى معاناة الولايات العربية من جرَّاء ذلك، والأسوأ من ذلك أن تَرِث البلاد العربية هذا الميراث الثقيل حتى بعد سقوط الدولة العثمانية.
- الحكومة الملكية المصرية.. وثائق مؤتمر إلغاء الامتيازات (مونترو 12 أبريل- 8 مايو 1937)، المطبعة الأميرية، القاهرة (1937).
- قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).
- لطيفة سالم، تاريخ القضاء المصري الحديث (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991).
- يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان سليمان (إسطنبول: منشورات مؤسسة فيصل، 1998).