وكالة يلدز 1797م

وتلك الوكالة تُعنَى بالطرق الاستخباراتية في الدولة العثمانية، وعندما أعلن الدستور في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وهو السلطان الرابع والثلاثون في دولة آل عثمان، كانت الدولة في عهده على حافة الانهيار، قال عنه جمال الدين الأفغاني: “كان كثير الخوف والحذر والحيطة، ويشعر بالخوف الدائم على دولته، ولا سيما في أدواره المختلفة”.

لقد كان عهده يعج بالأحداث، وهو من قال عن نفسه في مذكراته: “… نعم أنا الذي أسَّست نظام الجورنال – التقارير -، وأدرته بنفسي من أجل التعرف على من خانوا الدولة ومتابعتهم على الرغم من أنهم عاشوا مغمورين في نعمة الدولة العثمانية، وتلقوا الرواتب من خزينتها، وليس من الشعب”.

تلك نفسية عاش بها السلطان الذي لم يستطع الثقة فيما أسَّسه من قطاع مهم يخدم مصالحه والولاء للدولة وعدم الالتفات للشعب، وهو يؤكد أن ما كان يُصرف من خزينة الدولة لا الشعب، وتلك أحوال طبيعية في سياسة الدول وطرق الحكم، فلماذا يذكر بها وكأن الأمر فيه تكرُّم من أموال خزينته الخاصة .

عاش السلطان عبد الحميد في فترة حكمه بمشاعر عدم الثقة، وأن التقارير الواردة له رغم متابعته الشخصية – وهنا تناقض فيما ذكره في مذكراته – يوثق بأنها كانت تقارير كاذبة وملفقة، وأن بعضها صادق، ولكنه مبالغ فيها، ولا يمكن الاعتماد عليها، ويعترف أن ذلك أسلوب منبوذ ويدرك ذلك، وامتلأت عنده الصناديق بالتقارير الحساسة – وقد وصفها بهذا الوصف تحسين باشا في مذكراته -، وسميت فترة عهده بـ “عهد الخافية”؛ لكثرة الأزمات التي اندلعت في عهده .

في عام 1876م عين السلطان عبد الحميد مدحت باشا في منصب الصدر الأعظم، ويعلق بعض المؤرخين بأنه غير راضٍ عن ذلك؟!

مدحت باشا هو ابن محمد أشرف أفندي، ابن عائلة من الطائفة العلوية القاطنة في المناطق الحدودية مع بلغاريا، وانتقلت إلى إسطنبول منذ 1822م، وارتبط بعلاقات مع العديد من الشخصيات الأجنبية من فرنسا وإنجلترا والمجر، وقد عبَّر السفير الإنجليزي عن سعادته بعلاقته بمدحت باشا الداهية على حد وصف السفير – تقريبًا عُرف السبب –

كان السلطان يريد استغلال تلك الشخصية، ولكنه يخشى على نفسه، لا سيما أن مدحت باشا له نفوذ على الشرائح المثقفة ذات التوجهات الغربية في المجتمع العثماني، كانت أفكار مدحت باشا واضحة خلال مناقشات إعداد الدستور، أي أن الأمر لم يكن خفيًّا عن السلطان، ولا مجال للشك والحذر والخوف، وبموافقته تمت صياغة الدستور، فكيف بعد ذلك يتم اتهام مدحت باشا وغيره في أنهم صاغوا ما يتنافى مع مبادئ الدولة، وكانت الجلسات تنعقد مرتين في الأسبوع، ويطلع السلطان على كل ما يستجد.

كان من البنود التي اعترض عليها مدحت باشا واغتاظ منه عبد الحميد الثاني بند اقترحه السلطان وشدَّد عليه، وهو أن سلطة السلطان تستخدم في إنزال عقوبة النفي خارج البلاد لمن يتورط في قضايا أمن الدولة، وقال لمدحت أثناء اجتماعهم: “طالما أن المسألة تتعلق بالحفاظ على أمن الدولة ونظامها العام فهي من مهمتي وواجباتي قبل أي شخص آخر”، سبحان الله ويتم بعد ذلك خلعه ونفيه خارج البلاد.

من ردود الفعل التي تُظهر شخصية السلطان عبد الحميد بعد اعلان الدستور ومراسيمه اجتمع رجال الدولة برئاسة الصدر الأعظم مدحت باشا، وتوجهوا إلى القصر لتقديم الشكر والعرفان له. واللافت أن المؤرخين يصفون تلك المسيرة بأنها كانت حسب التقاليد الألمانية، وكانت المسيرة يُحمل فيها المشاعل، وكانت طريقة غريبة على المجتمع العثماني أن ينتظموا بعد التجمع والتوجه إلى المقصورة الزجاجية (اسمها جاملي كوشك) أمام قصر دولمة بهجة، وأرسلوا ممثلًا عنهم، وفتح السلطان نافذة المقصورة وأطل عليهم، وترددت الهتافات أمامه: عاش السلطان عبد الحميد، عاش مدحت باشا.

وحسبما ورد فإن وجه السلطان اكفهر لاقتران اسمه باسم مدحت باشا، وعاد للوراء، وانتقل للغرفة المجاورة غاضبًا، وكان يقول: “هذا يعني أن مدحت باشا خطَّط لذلك، ويريد من ورائها أن يذكرني بمكانتي لدى الجماهير، ويقول: “أنا وأنت متساويان في المكانة، حسنًا يا مدحت باشا، لننظر هل يمكن أن يلعب بهلوانان على حبل واحد!”.

وقرر ألَّا تصل أي معلومات خاصة لمدحت رغم أهمية الأحداث في تلك المرحلة، ومنها أنه لم يتبقَّ سوى خمسة عشر يومًا على انعقاد مؤتمر مصيري للدولة، وقرَّر أن يبقى مدحت باشا تحت المراقبة، وانفرد السلطان عبد الحميد باستقبال المندوب الإنجليزي (سالسبوري)، وانفرد باللقاء على متن سفينة الأميرال الراسية في (بيوك درة)، وتبادلَا الأحاديث بحضور الأميرال عارف باشا، وكان الحديث حول علاقة الصداقة مع الإنجليز والعثمانيين، وأثار ذلك ضغينة الروس ممثلة في سفيرهم (إغناتييف)، وحدثت مؤامرات وفتن، ومنها ما أثاروه ضد بعضهم البعض، وحاول سالسبوري أن يلتقي السلطان قبل مغادرته إسطنبول، وتم رفض المقابلة بحجة أن السلطان مريض، وانعدمت الثقة بين العثمانيين والإنجليز، وتلك جزء لا يُذكر من تعاملات السلطان التي تتدخل الشخصية في إدارتها، متناسيًا أنه سلطان ويدير دولة، لا قصرًا خاصًّا.