بمباركة سلاطين العثمانيين

النفوذ الصهيوني في الدولة العثمانية

لم تكن علاقة الصهيونية بالدولة العثمانية علاقة عابرة، بل كان تحالفًا استراتيجيًّا، له من الأهداف ما يجعله قادرًا على تدمير العالم العربي، الذي كان مهلهلًا نتيجة قرون الجهل والفقر الذي فرضته الدولة العثمانية عليه، وصار محطة تزوّد للشعوبية التركية بالقوة والاستراتيجية الاقتصادية.

الخطوة الأخيرة التي امتدت حتى سقوط الدولة العثمانية، كان التحالف مع الصهاينة منذ بداية اعتراف العثمانيين بالدين اليهودي باعتباره مِلة، على غرار ما حصل مع المسيحيين الأرثوذكس، وتطور الأمر أكثر مع دخول الصهاينة قصور الحكم، وكان السلطان مراد الثالث أول من قرَّب يهوديًّا لقصره عندما عيَّنه طبيبًا خاصًا له، كما سمح لهم محمد الفاتح بالسكن في إسطنبول، وعين لهم “حاخام باشي” ومنحه سلطات مشابهة لما منحه البطريرك المسيحي.

ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فمنذ اللحظة الأولى منح الأتراك الصهاينة تميزًا، من خلال حرية ارتداء الملابس الخاصة بهم وحرية العيش كما يرغبون، وهو ما جعل الجاليات اليهودية تتمكن من العيش في مختلف مراحل الدولة العثمانية، وأن يجدوا موطئ قدم ليكونوا حلفاء، ومفتاحًا لعلاقتهم مع أوروبا.

لكن التحالف اتخذ شكلًا أوثق، حين بدأ سلاطين الأتراك في اختيار صهاينة اليهود شركاء اقتصاديين لدولتهم في العمل والتجارة، وأبرز الأدلة ما كان للطبيب الصهيوني ناثان سلمون أشكنازي، الذي وصل إلى منزلة رفيعة في بلاط السلطان مراد الثالث، للدرجة التي دفعته إلى استئجار طبرية من السلطان ليواصل ابنه تعميرها.

كذلك نفوذ الصهيوني يوسف ناسي أدى إلى تكوين ثروة كبيرة، مكّنته بعد ذلك أن يعمل مستشارًا للسلطان العثماني، لإدارة المعلومة المهمة من خلال شبكته الخاصة في دول أوروبا، وتشير روايات تاريخية إلى أن ناسي هو من مهّد للتحالف التركي الإنجليزي ضد ملك إسبانيا فيليب الثاني، كما تكشف مصادر تاريخية عن أن الملكة إليزابيث الأولى (1558-1605) كتبت خطابًا للسلطان مراد الثالث، توصيه باستخدام أشكنازي بوصفه “رجلًا ماهرًا” وأهلًا للثقة ويجب حمايته من الأعداء.

الصهاينة تولوا الاتفاقيات والعقود التجارية للدولة العثمانية مع الدول الأوروبية الكبرى.

التقارير السرية الصادرة من بعض السفراء في إسطنبول تُكمل مشهد تفريط الدولة العثمانية بالأراضي العربية التي لا تمتلكها لمن لا يستحقون، فتوضح أن يوسف ناسي تخطى الجميع في عهد السلطان سليم الثاني، للدرجة التي دفعت سفير البندقية “تيوبولو للقول: “لقد سيطر الطبيب على عقل الصدر الأعظم وهو مطلع على كل أسرار الديوان العثماني”.

وتصاعدت الأحداث فيما بعد، بتفويض الباب العالي لسلمون أشكنازي لعقد اتفاقية سلام مع البندقية، وقد أّرسل إلى البندقية بوصفه ممثلاً تركيًّا رسميًّا، ما أدهش الأوروبيين أنفسهم، ومن العجيب أن سلمون كُلف أيضًا بإجراء مفاوضات صعبة للسلام مع إسبانيا، والتي استمرت خلال الفترة (1578-1586)، وانتهت تلك المفاوضات في النهاية بسلام مبدئي بين القوتين، ونتيجة ذلك أعطى السلطان العثماني جزيرة مليتين ليوسف ناسي هدية على جهوده.

استغل سلمون مكانته لدى السلطان لتقديم خدماته المتنوعة للأرستقراطية التركية، واستمالة السلطان لشخص دون آخر، فمثلاً استطاع أن يستميل السلطان لمصلحة الوزير فرحات باشا بفضل هدية ثمينة قدمها له وهي عبارة عن خنجر مرصع بالجواهر الثمينة، وبذلك نجى من غضب السلطان، والواقع أنه يمكن القول أن أمثال سلمون وغيره من الصهاينة، كان لهم دور في التغلغل في الإدارة والسياسة والاقتصاد العثماني منذ فترة مبكرة، وظل هذا الأمر حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي .

وأما من الناحية الاقتصادية، ففي القرن السادس عشر الميلادي، كان تحصيل الرسوم الجمركية يديره الصهاينة، وقد عملوا في الملاحة البحرية والتجارية، وحققوا فيها نجاحات باهرة، ونافسوا فيها أبناء البندقية الذين كانوا يملكون أسطولاً قويًّا وتقاليد تجارية عريقة.

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. إيرما لفوفنا فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).

 

  1. هاملتون جيب وآخر، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة: عبد المجيد القيسي (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1997).

 

  1. ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).

 

  1. جعفر حسن، فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام، ط3 (بيروت: مؤسسة الفجر، 1988).

سيطروا على أسواق المال والمعادن الثمينة

كيف تغلغل صهاينة اليهود في مناطق نفوذ العثمانيين

شهدت منطقة شبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلس) متغيرات حادة في نهاية القرن الخامس؛ إذ استطاع الإسبان والبرتغاليون احتلال الأندلس من أيدي المسلمين، وترتبت على ذلك سلسلة من الاضطهادات وُجِّهَت بصفةٍ خاصة ضد المسلمين واليهود، وتصاعدت هذه الموجة من الاضطهادات لا سيما بعد سقوط غرناطة سنة (1492).

وبعد هجرة العديد من المسلمين الذين عُرِفوا بالموريسكيين، في شتى بقاع البحر المتوسط، وهجرة أعداد كبيرة من اليهود الذين عُرِفوا باليهود الإسبان؛ استقبلت الدولة العثمانية أعدادًا كبيرة من هؤلاء اليهود، لا سيما أن معظمهم كانوا من الأثرياء، أو من ذوي الخبرات المهنية.

ولدينا مصدر تاريخي يؤكد توافد اليهود الإسبان على الدولة العثمانية، وترحيب العثمانيين بتوطين هؤلاء اليهود في أراضيهم؛ إذ يحدثنا صموئيل أوسك وهو يهودي اضطر إلى اعتناق الكاثوليكية، لكنه ظل يهوديًّا في السر، قال لإخوته في الديانة اليهودية: “أبواب الحرية- هنا- في الدولة العثمانية مفتوحة لكم لتمارسوا شعائركم اليهودية بلا تحفظ”.

وفي الحقيقة بدأت هجرة اليهود إلى المغرب أولًا، ولكن منذ عام (1517) ازدادت الهجرات نحو الشرق، لا سيما إلى مصر وسوريا وفلسطين وإسطنبول وآسيا الصغرى بشكلٍ عام.

ويحدثنا المؤرخ الفرنسي آندريه ريمون، عن تزايد الدور الاقتصادي لليهود في الولايات العربية العثمانية، رغم قِلة أعدادهم مقارنةً بأعداد السكان الأصليين؛ إذ احترف اليهود أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة، وفي القاهرة على سبيل المثال كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار حي الصاغة.

 كما كان اليهود يعملون أيضًا في دار سك النقود، وقاموا بدور مهم في التجارة الخارجية، حيث تخصصوا في تصدير المنتجات المحلية، واستيراد المنتجات الأوروبية، ويرجع ذلك إلى إتقانهم اللغات الأجنبية، وعلاقاتهم الأوربية الوثيقة مع أترابهم اليهود في أوروبا. كما احترف اليهود مسألة تقديم القروض لا سيما لرجال الإنكشارية وكبار الملتزمين، وهكذا استطاعوا تكوين علاقات وثيقة مع كبار القوم في الدولة العثمانية.

وضع الصهاينة نُصب أعينهم الاقتصاد والسياسة في الدولة العثمانية.

وتشير المصادر التاريخية إلى حدوث مشاكل ومنازعات بين اليهود والسكان المحليين، نتيجة ازدياد النفوذ المالي والإداري لليهود والصراع على ذلك؛ ففي إسطنبول على سبيل المثال أصبح الطبيب الشهير يعقوب باشا طبيبًا خاصًّا للسلطان، فأثار ذلك عداوة رجال البلاط العثماني له.

وفي المشرق العربي حدث صدام كبير نتيجة التنافس بين اليهود والمسيحيين المحليين على إدارة الجمارك، وفي مصر وجّه عليّ بك الكبير ضربة قاسية للجالية اليهودية حوالي عام (1770) حين أبعدهم عن إدارة الجمارك، وأحل محلهم الجالية المسيحية السورية.

وفي تونس حدث تباعد بين اليهود المحليين واليهود الوافدين من أوروبا، ففي القرن الثامن عشر انفصل اليهود ذوو الأصول الأوروبية عن اليهود التوانسة المحليين، وأقاموا تنظيمًا خاصًا بهم.

ويبرر المؤرخ التركي أحمد آق كوندز فتح الدولة العثمانية أبوابها للهجرات اليهودية، بأن هذا كان استمرارًا لتقاليد الدول الإسلامية في معاملة أهل الذمة، لكن الواقع أن الدولة العثمانية تعاملت ببراجماتية واضحة من أجل الاستفادة من ثراء اليهود وخبراتهم الاقتصادية والإدارية.

  1. آندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج (القاهرة: دار الفكر، 1991).

 

  1. أحمد آق كوندز وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).

 

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. إيرما لفوفنا فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).

 

  1. هاملتون جيب وآخر، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة: عبد المجيد القيسي (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1997).

 

  1. ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).

 

  1. جعفر حسن، فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام، ط3 (بيروت: مؤسسة الفجر، 1988).
تشغيل الفيديو

غيّروا قوانين تملّك الأراضي وفتحوا طريق الاستيطان

فلسطين... هديَّة العثمانيين للحركة الصهيونية العالمية

استغلت الدعاية العثمانية الجهل المُطبق الذي فرضته على العالم العربي طوال خمسة قرون، لتعزيز تزويرها التاريخي، فقدّموا أنفسهم وكأنهم حماةً للديار الإسلامية وعلى رأسها فلسطين، وهو ما استقر في العقل الجمعي العربي، خاصة بعد ترويج أسطورة “أن سقوط الدولة العثمانية سببه الأساسي موقفهم من الاستيطان اليهودي في فلسطين، وأن السلطان عبد الحميد الثاني نفسه كان ضحية”.

الحقيقة التاريخية التي تؤيدها الوثائق والأحداث بعيدًا عن التزوير الفج، أن العلاقة الوثيقة التي بناها السلاطين الأتراك مع الحركة الصهيونية، وخاصة مع زعيمها ومؤسسها تيودور هرتزل؛ كانت أكثر إثباتًا ومنطقيَّة.

في كتاب دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876-1909)، تكشف الباحثة الأردنية فدوى نصيرات عن مواقف عبدالحميد الثاني من نشاط الحركة الصهيونية في السلطنة العثمانية، وسعيها الدؤوب لشراء الأراضي وبناء المستوطنات في فلسطين، وعن طريقة تعاطيه الفعلي مع هذا الملف، ومدى جديته وصرامته في منع التمدد الاستيطاني في فلسطين ومدى قدرته على حماية الأرض والمقدسات هناك.

وينسف هذا الكتاب ما يُمكن تسميته بـ”المسلمة التاريخية”، التي رُوج لها كثيرًا، والتي تقول: إن عبدالحميد الثاني كان شديد الحرص على منع قيام كيان صهيوني في فلسطين، لكن الحقيقة تعكس مواقفه الحقيقية من المشروع الصهيوني في فلسطين، إذ كانت عكس ذلك تمامًا، بل ساهمت في سقوطها وضياعها.

ولعل أدق وصف يمكن إطلاقه على العلاقة بين الصهيونية العالمية والسلطنة العثمانية، هي أنها “لم تكن وليدة المصادفة”، لقد بدأت إرهاصاتها، منذ استقبال الأتراك اليهود بأعداد كثيرة في أعقاب فِرارهم من الأندلس إثر سقوطها، وكذلك استقبال هجرات أخرى من أوروبا الشرقية وروسيا، وتوطينهم مع اليهود الأتراك في مدن ومناطق عديدة منها إسطنبول.

كل ذلك أسس لقومية يهودية واسعة النفوذ أدارها الصهاينة داخل الدولة العثمانية، وكانت ذات تأثير سياسي واقتصادي، ساهم لاحقًا في تنفيذ خططهم بمساعدة السلطنة للاستيلاء على فلسطين، ولم تكن علاقة الصهيونية العالمية بالدولة العثمانية سرية، ولم تكن الدولة العثمانية تخشى أو تتغافل عنها، لكن الدعاية التي أطلقت فيما بعد حاولت إطفاء الحرائق التي خلفتها تلك العلاقة وخاصة بيع العثمانيين فلسطين لصالح الحركة الصهيونية.

يقول زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل في مذكراته: “السلطان عبدالحميد وعدنا بدولة يهودية مستقلة، مقابل تسديد ديونه”، إذ إن الدولة العثمانية التي وصُفت بالرجل المريض كانت في أسوأ حالاتها وخزينتها مُفلسة، فلم يجد السلطان عبد الحميد إلا هرتزل ليتمكن من إنقاذ سلطنته المتهاوية، بادئًا مفاوضات ومراسلات سرية بينهما إلى أن توصلا إلى صيغة عنوانها المال مقابل فلسطين، واستمرت تلك  المفاوضات ثمانِ سنوات (1896-1903)، وأسفرت في النهاية عن قيام دولة إسرائيل على حساب فلسطين التاريخية.

يكشف تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية في مذكراته أن عبدالحميد الثاني وافق على بيع فلسطين مقابل المال

تطورت العلاقة بين قوميتين تركية ويهودية، وجدتا أنفسهما في وسط محيط عربي، ومصالحهما تستوجب التعاون حتى لا يتسبب ذلك المحيط في ابتلاعهما، لقد تعاملت السلطنة وأجهزتها الحكومية مع صهاينة اليهود وكأنهم حلفاء، ومع العرب وكأنهم أعداء، حين منحت اليهود الامتيازات والنفوذ وقربتهم، وحاصرت العرب وخوّنتهم.

ويؤكد الدكتور أحمد نوري النعيمي أن اهتمامات ومحاولات الحركة الصهيونية لدى السلاطين العثمانيين لإقامة دولتهم في فلسطين، لا تعود إلى ظهور الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل عام (1897)، بل إلى تاريخ سابق، لاسيما بعدما أصبحت هذه الاهتمامات واضحة، منذ اتبّعت السياسة الروسية استراتيجية جديدة ضد اليهود عام (1882)، وهذا لا يعني بأن صهاينة اليهود لم يعملوا قبل هذا التاريخ أيضًا، إذ إنه بعد استقرارهم في الدولة العثمانية بعد طردهم من إسبانيا، انصبّت جهودهم على السيطرة على المجالات الحيوية في الدولة العثمانية بعد أن اعتنق قسم من هؤلاء الدين الإسلامي، وعرفوا فيما بعد بيهود الدونمة.

لقد كانت جهود صهاينة اليهود لإقامة دولتهم المزعومة في فلسطين واضحة جدًا، ولم تكن سرية كما يزعم العثمانيون، وخاصة بعد استقبال دفعات كبيرة من يهود روسيا، حيث أصدر السلطان مجموعة من الفرمانات لتسهيل حياتهم ومنحهم الجنسية العثمانية مباشرة، وذلك يعني أنهم أصبحوا على قدم المساواة مع رعايا السلطنة، يحق لهم ما يحق لغيرهم، وهو ما انعكس على فلسطين عندما بدأت حمى شراء الأراضي لصالح اليهود من السكان الفلسطينيين المحليين، بل كان تسجيلها في دوائر الأراضي العثمانية وإزالة أي قوانين تعارضها، وذلك ما ساهم في إقامة المستعمرات.

ذلك الترحيب والتساهل مع صهاينة اليهود، دفعهم للضغط على السلاطين العثمانيين للسماح بالهجرة المباشرة من أوروبا إلى فلسطين، وهو ما حصل لاحقًا، وفي الوقت نفسه أصدرت الدولة العثمانية فرمانات لصالح اليهود، فاستغلوها في زيادة هجرتهم إلى فلسطين وإقامة مستعمرات صهيونية.

وللأسف كان الاختراق الصهيوني عميقًا جدًا في كواليس السلطنة، إذ عمد اليهود المهاجرون إلى رشِوة المسؤولين العثمانيين خاصة في متصرفية القدس، والدفع لتغيير القوانين، وبالتزامن مع ذلك بذل العثمانيون وخاصة عبدالحميد الثاني جهودًا كبيرة لتمكين اليهود من فلسطين التاريخية، من أهمها تغيير قانون تملّك الأراضي ليتيح لليهود التملّك، بعد أن كان هذا ممنوعًا عليهم.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن تغيير قانون تملّك الأجانب للأراضي جاء نتيجة ديون الدولة العثمانية لدى أوروبا، فسمحوا بذلك أملًا في الحصول على أموال، فتدفق اليهود بأموالهم، إضافةً إلى أن الكنائس الأوروبية قد أخذت تهتم بشراء مساحات كبيرة من الأراضي، وأخذت أيضًا تعمل على رفع أسعار الأراضي في مناطق القدس ويافا وحيفا؛ لتحقيق أقصى حد من الأرباح.

وتشير الباحثة فدوى نصيرات إلى أن عبدالحميد الثاني أصدر عام (1887) فرماناً بتشكيل متصرفية القدس، حيث حوَّلها إلى كيان إداري مستقل عن ولاية سوريا، ويرتبط حاكمها بالسلطان مباشرة في إسطنبول، كل ذلك لتسهيل اتخاذ القرارات التي تدعم المشروع الصهيوني، مع أن الوجود اليهودي كان يتزايد قبل ذلك.

كل هذا جعل العلاقة بين الحركة الصهيونية والبلاط العثماني تثمر فعليًّا على الأراضي الفلسطينية تحديدًا، فقد تحوّلت من جهود فردية مجرَّدة ومنازل عبثية متناثرة، إلى جهود منظمة تحكمها القوانين التي صدرت لتسهيل الاستيطان والأموال التي تدفقت لحماية المستوطنات وتمكينها من الصمود في وجه المحيط العربي.

تضاعف أعداد اليهود في فلسطين في عهد عبدالحميد الثاني ثلاثة أضعاف، كما تؤكد الباحثة فدوى نصيرات، بعدما تزايدت أعدادهم من 25 ألفًا عام (1882) إلى 80 ألفًا عام (1908)، وتضاعفت نسبتهم إلى السكان من 5% إلى 11%، وكانوا يملكون عام (1909) أكثر من 400 ألف دونم في فلسطين في أفضل وأخصب أراضيها، منها 275 ألف دونم باسم الصهيوني اليهودي المشهور روتشيلد، الذي كان على صداقة قوية وشخصية مع عبدالحميد، وأسسوا في ذلك العام مدينة تل أبيب بجوار مدينة يافا، التي صارت عاصمةً لإسرائيل فيما بعد.

التاريخ الحقيقي وليس المزور، هو من يُثبت أن العثمانيين لم يكونوا أبدًا  أمناء على الأراضي والمقدسات الإسلامية، بل بدلًا من إعادة الأراضي لأصحابها، سلموّها لمحتل آخر، لقد فرّط الأتراك فيما لا يملكونه لصالح من لا يستحقون، ولعلنا نتذكر هنا كيف تنازل العثمانيون من أجل مصالح ضيقة عن ليبيا للإيطاليين، والجزائر للفرنسيين، وأخيرًا فلسطين لصالح الحركة الصهيونية التي بنت دولتها الحلم، دولة إسرائيل بدعم ومساندة من السلاطين العثمانيين.

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. أمين مسعود، ملكية الأراضي في متصرفية القدس 1858-1918 (عمَّان: مؤسسة عبدالحميد شومان، 1996).

 

  1. آندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج (القاهرة: دار الفكر، 1991).

 

  1. إيرما لفوفنا فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).

 

  1. هاملتون جيب وآخر، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة: عبد المجيد القيسي (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1997).