عبدالحميد الثاني

باع فلسطين وأسكت العرب والمسلمين بالدعاية والقمع

لم يكن تقليد السلطان عبد الحميد الثاني لرئيس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل بالنيشان المجيدي، إلا تتويجًا لصداقة طويلة وعميقة، وصفها هرتزل بالعظيمة، بعدما أسفرت المفاوضات عن دعم الحركة الصهيونية لخزينة السلطنة المترنحة ماليًّا، ودعم مفاوضات السلطنة في المحافل الدولية، وخاصة عند دائنيهم الأوروبيين، لقد كتب هرتزل في مذكراته عن علاقته مع عبد الحميد وسلطنته، واصفًا تلك اللحظة التاريخية إثر تسلمه النيشان المجيدي بقوله: “حينما يسر جلالتكم أن تقبلوا خدمات اليهود، سوف يسعدهم أن يضعوا قواتهم تحت تصرف ملك عظيم مثلكم”.

لم يكن الدعم المالي لخزينة السلطنة العثمانية، قرض مجردًا ماليًّا أخذه السلطان لسداد الديون المتراكمة على دولته، بل كان هبة “صهيونية” جاءت تعبيرًا عن امتنان من الحركة الصهيونية تجاه الجهود التي بذلها عبدالحميد الثاني، خدمةً لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين التي كانت محتلةً من العثمانيين.

ومخطئ من يعتقد أن العلاقة التي تطورت كثيرًا بين عبدالحميد الثاني وهرتزل كانت علاقةً دبلوماسيةً مجردةً، كما يحاول أن يصفها مؤيدو السلطان ومحسِّنو صورته في العالم العربي، فهرتزل ليس سوى حلقة طويلة من العلاقة المتأصلة بين اليهود والحكومات السلطانية المتعاقبة منذ محمد الفاتح وحتى عبدالحميد الثاني.

 كانت الحركة اليهودية جزءًا من النظام المالي والسياسي والعسكري العثماني، وعندما فكرت الحركة في إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، لم تجد سوى السلطنة العثمانية “الصديقة الحميمة” للصهاينة لبدء مشروعها من هناك، وعندما بنى هرتزل علاقاته مع عبدالحميد الثاني كانت الأرضية السياسية جاهزة للصعود عليها.

يقول هرتزل في مذكراته عن علاقته السرية وصداقته لعبدالحميد الثاني: “عبدالحميد وعدنا بدولة يهودية مستقلة، مقابل تسديد ديونه”؛ ذلك النص ليس سوى إشارة واحدة من آلاف الدلائل على عمق العلاقة، وما أسفرت عنه في نهاية المطاف من بيع فلسطين.

بدأت مفاوضات عبدالحميد وهرتزل بمراسلات سرية في بادئ الأمر، إلى أن توصلا إلى صيغة عنوانها: “المال مقابل فلسطين”، واستمرت المفاوضات ثمانية أعوام (1896- 1903) تخللتها خمس زيارات لهرتزل إلى إسطنبول.

كشف مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل أن عبدالحميد الثاني كان قد وافق على بيع فلسطين لليهود.

ويوضح الأكاديمي اللبناني حسان علي حلاق في كتابه “موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية” كيف استقبل السلطان عبدالحميد الثاني هرتزل بحفاوة بالغة، ووصفه بالصديق المخلص، وهو يرجوه إنقاذ دولته من الإفلاس.

وقد بنى هرتزل مفاوضاته على حاجة العثمانيين المُلحة للمال، وعرض على عبدالحميد 20 مليون جنيه إسترليني، مُنح على إثرها المهاجرون اليهود امتيازات وتسهيلات استثنائية، عندئذٍ عاد هرتزل لأوروبا وعقد المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا عام (1897)، معلنًا أهدافه الصهيونية بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي برعاية عثمانية.

ولعلنا نتذكر أن الدولة العثمانية اختارت دول المحور خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لتكون في حلفها، وبالطبع كانت ألمانيا والنمسا عمود تلك العلاقة، ومن هنا جاء دور الدبلوماسي النمساوي فيليب مايكل دي نيولنسكي (1841 – 1899) الذي عمل مسؤولًا عن الإدارة السياسية في السفارة النمساوية في إسطنبول، واستطاع خلالها أن يبني علاقة صداقة وثيقة مع عبدالحميد الثاني.

وفي (1896) تواصل مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل مع نيولنسكي، طالبًا منه الترتيب للقاء عدد من القادة العثمانيين، على رأسهم عبدالحميد الثاني، لإقناعه بمساعدة الحركة الصهيونية في مشروعها.

ويذكر تيودور هرتزل في مذكراته أن نيولنسكي، قد أخبره أن عبدالحميد وثق فيه، واقترح الدبلوماسي النمساوي على هرتزل أن أفضل طريقة للتأثير على السلطان هي مساندته في قضية الأرمن، وهو ما أكده هرتزل في مذكراته عن اتصالات أجراها مع زعماء الأرمن في أوروبا من أجل التهدئة والقبول بعرض عبدالحميد لإصلاح العلاقة معهم.

وبالبحث في أسباب الانهيار المالي للسلطنة العثمانية في آخر خمسة عقود من تاريخها، سوف نجد أن البذخ والصرف على ملذات السلاطين كان أول تلك الأسباب، فسوء الإدارة والاستحواذ على المال دون إعادة تدويره في مفاصل الدولة، إضافةً إلى تجريف الصناعة والزراعة والمهن في البلدان العربية المحتلة، والذي أدى إلى فقرها وعدم قدرتها على تمويل الخزانة العثمانية، وهو ما استدعى تدخل الحركة الصهيونية في محاولةٍ لإنقاذ حليفهم الأقوى حينها عبر تمويل الخزينة العثمانية.

أصبحت السلطنة العثمانية مُكبلة بالديون، ففي سبتمبر (1875) أعلنت الحكومة العثمانية عن تفاصيل ميزانيتها التي أظهرت عجزًا بمقدار 4.5 مليون ليرة عثمانية، بينما بلغت نفقات فوائد الديون في الميزانية نحو 9.68 مليون ليرة بما يزيد عن ضعف الدين، واستخدمت السلطنة طريقة سيئة في إدارة دينها؛ حيث تقوم بتسديد فوائد الديون من خلال عقد قروض جديدة، وهو ما أغرقها في بحر من الديون،  وقد وصل إجمالي الدين العام الخارجي للدولة العثمانية أكثر من 184 مليون جنيه إسترليني، بينما بلغ الدين الداخلي ما يزيد عن 20 مليون جنيه إسترليني.

ومع ابتزاز الدائنين وارتفاع الفائدة وضعف الثقة بالاقتصاد العثماني، أصبحت الدولة على مشارف الإفلاس، ولم يعد باستطاعتها الاستدانة من الأسواق العالمية، وحينما أدركت أنها عاجزة عن تسديد فوائد ديونها، قرر الصدر الأعظم محمود نديم باشا في 6 أكتوبر (1875) إصدار مرسوم عُرف باسم «مرسوم رمضان»، أعلن فيه بأن الحكومة ستسدد فقط نصف قيمة الفوائد السنوية نقدًا، أما النصف الآخر فسوف يُدفع عبر سندات تصدرها الحكومة العثمانية بفائدة 5%؛ مما يعني تخلف الحكومة العثمانية جزئيًّا عن سداد ديونها، ولم يستمر الوضع طويلًا حتى أعلنت الحكومة مع بداية السنة الجديدة في أبريل (1876) إيقافها سداد جميع فوائد ديونها الأجنبية، مما يعني عمليًّا إفلاس الدولة العثمانية.

وبالتزامن مع ذلك، فقد أقنع الوسيط النمساوي نيولنسكي عبدالحميد الثاني بجدوى العلاقة مع هرتزل، ووافق السلطان في بادئ الأمر على زيارة هرتزل والالتقاء بأركان حكومته، هذه الزيارة كانت الأولى، لكنها تعددت لاحقًا ووثَّقت العلاقة بين الطرفين.

وبالفعل رتَّب نيولنسكي زيارة لهرتزل إلى إسطنبول في يونيو (1896)، والتقى  “الصدر الأعظم” -رئيس الوزراء-  جاويد بك، وكان السبب هو معرفة نوايا هرتزل دون أن تُحسب لقاءً رسميًّا، ودار اللقاء حول ثلاثة أسئلة، الأول مصير الأماكن المقدسة -المسجد الأقصى- فوعده أن تكون خارج حدود الدولة اليهودية؛ لتكون لجميع الأديان، وليست لأحد بمفرده، ثم سأله عن العلاقة بين الدولة اليهودية وتركيا، فقال هرتزل: “رغم رغبتي في الاستقلال، لكن يمكن الوصول لتبعية صورية حكم كالموجودة في مصر وبلغاريا”، وكان السؤال الثالث عن نوع الحكم في الدولة اليهودية، فكان جواب هرتزل: “جمهورية أرستقراطية” فنصحه جاويد، وقال: إياك أن تذكر كلمة جمهورية أمام السلطان؛ لأن الناس في تركيا يخافون منها كالموت.

في اليوم الثاني بدأت اللقاءات الرسمية ليلتقي هرتزل مع خليل رفعت باشا الذي استمع إليه بهدوء، ثم قال: فلسطين كبيرة، في أي جزء منها تفكرون؟ فقال هرتزل: إن هذا يعتمد على ما سنقدمه نحن من منافع.

وختم هرتزل جولة زيارته الأولى إلى إسطنبول بلقائه بأحد رجال وزارة الخارجية، ويدعى نوري بك، وعرض عليه تحرير تركيا من بعثة حماية الديون التي أثقلت كاهل السلطنة، وهي البعثة التي هدفت إلى التأكد من قدرة السلطنة على سداد ديونها الدولية، وهو ما سُر به نوري بك، لكنه سأل عن الأماكن الإسلامية  في فلسطين، فطمأنه هرتزل وقال له: “تذكر أننا المشترون الوحيدون لشيء لا قيمة له أبدًا، ولا يرجي منه نفعٌ لغيرنا، ومشترون بأسعار مرتفعة”.

وخلال الزيارة الأولى التي قام بها هرتزل لإسطنبول، لم يستطع الالتقاء بالسلطان، لكنه روى في مذكراته نقلًا عن الوسيط النمساوي: “عندما التقى نيولنسكي بالسلطان سأله عبدالحميد: هل اليهود مصممون على أخذ فلسطين بأي ثمن؟ ألا يمكن أن يعيشوا في أي بلد آخر؟ فرد نيولنسكي: فلسطين مهدهم، إليها يريدون العودة، فقال السلطان: لكنها مهد الأديان الأخرى كذلك، فقال نيولنسكي: إذا لم يستطع اليهود أخذ فلسطين فسوف يذهبون إلى الأرجنتين”.

غادر هرتزل تركيا في 28 يونيو (1896) دون أن يقابل السلطان، لكنها لم تكن النهاية، فقد فسرها هرتزل في رسالة بعثها بشأن مباحثاته مع السلطان العثماني إلى صادوق خان، وهو كبير حاخامي باريس وفرنسا والرئيس الفخري لحركة أحباء صهيون، قال فيها: “أخذ السلطان علمًا بمشروعي فلسطين لليهود، لقد عاملني بامتياز من عدة نواحٍ جعلتني أفهم أنه يمكن عقد الصفقة إذا وجدنا الصيغة المناسبة، إنها مسألة حفظ ماء الوجه”.

وأكمل: “لقد تلقيت العرض التالي من حاشية السلطان: يدعو السلطان اليهود بحفاوة للعودة إلى وطنهم التاريخي، وليستقروا هناك بحكم ذاتي مستقلين إداريًّا وتابعين للإمبراطورية التركية، ومقابل ذلك يدفعون له ضريبة”، ويتحدث هرتزل أيضًا عن اتصالاته مع سياسيين وممولين يهود في لندن وباريس، بغرض إشراكهم في مشروع الدعم المالي.

وتقول رسالة نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بين نيولنسكي وهرتزل، كاشفة أن فلسطين انتهى التفاوض حولها وتم التنازل عنها، لكن التفاصيل الأخيرة كانت حول إدارة القدس نفسها.

ويقول نيولنسكي: “قال السلطان إنه لن يتخلى عـن القـدس، يجـب أن يبقـى جـامع عمـر بيـد المسـلمين دائمًـا، قلـت لـه: سوف ندبر هذا الأمر، وسـنجعل القـدس خـارج حـدود الدولـة، وبهـذا لا تكـون لأحـدٍ وحـدهِ، وتكـون للجميـع في الوقــت نفســه؛ المكــان المقــدس يمتلكــه كــل المــؤمنين، بلــد الثقافــة والأخــلاق المشــتركة”.

وبناء على ذلك اندفعت المنظمة الصهيونية لدعم السلطنة العثمانية ماليًّا وبمبالغ طائلة، وهنا ينشر أيضًا المركز الفلسطيني للدراسات الوثيقة التالية:

“تُصرف عشرون مليون ليـرة تركيـة لكي نصـلح الأوضـاع الماليـة في تركيـا، نـدفع مـن هـذا المبلـغ مليونين بدلاً من فلسطين. وهذه الكمية تستند على تحويل رأس مال من مدخول الحكومة الحاضـر الـذي هــو ثمــانون ألــف ليــرة تركيــة في الســنة. وبالثمانيــة عشــر مليونًا تُحــرَّر تركيــة مــن بعثــة الحمايــة الأوروبيــة، أمــا أصــحاب الأســهم مــن الفئــات الأولى والثانيــة والثالثــة والرابعــة، فســوف نحملهــم علــى الرضى بإزالة البعثة؛ وذلك بإعطائهم امتيازات خاصة، فوائد أعلى وتمديدًا لملكية الأرض”.

وفي دراسة نشرتها الباحثة نادية إبراهيم حياصات، عن الرعاية التي حظي بها الأيتام اليهود في مدينة القدس في نهاية الاحتلال العثماني، اعتمدت الباحثة على مصدر أساسي أصيل، وهو سجلات المحكمة الشرعية في مدينة القدس، وتناول البحث أملاك الأيتام اليهود من عدة جوانب؛ كمعرفة أماكن تركز أملاكهم ونوعيتها ومساحتها، وتسجيلها رسميًّا في دوائر الحكومة العثمانية، وأرقام سندات ممتلكاتهم، كما هدفت الدراسة إلى التعرف على إجراءات المحكمة الشرعية العثمانية بتنصيب الوصي على الأيتام، والتحقق من قدرته على إدارة أملاك الأيتام بالشكل الصحيح، وتطرق البحث إلى شروط تصرُّف الأوصياء بأملاك الأيتام، ومتابعة حصة الأيتام بدقة من حيث قيمتها المالية في حال بيعها، حتى تطمئنَّ المحكمة بأنَّ البيع يصب في مصلحة الأيتام.

لم تكن فلسطين وحدها هي ما عرضه العثمانيون للبيع أمام الحركة الصهيونية المتعطشة لوطن بديل، ولنلخص الأمر أكثر، دعونا ننتقل إلى قصر السلطان عبدالحميد الثاني في إسطنبول، ونراه وهو يطلب من معاونيه فرش خريطة سلطنته أمام هرتزل ليختار ما يريد من سلة البلدان والشعوب المحتلة، لقد كان الأمر برمته عملية بيع مباشرة لأرض لا يملكها السلطان لمن لا يستحقها.

وعرض العثمانيون أول الأمر على هرتزل تمكينه من العراق، وكان السبب كما يخبرنا  نوري بك، وهو من الدائرة المقربة من السلطان، والتي تتفاوض مع هرتزل، أن تردد السلطان في أول الأمر كان خشيته من ردة فعل الأوروبيين إذ لم يكن متأكدًا من موافقتهم على البيع، مع وجود رومانسية مسيحية مع فلسطين، وكان أكثر مخاوفه أن ترسل الدول الأوروبية جيوشها وتحتل فلسطين، بالطبع لم يكن عبدالحميد يلقي بالًا للرأي العام الإسلامي والعربي، الذي يمكن إسكاته من خلال الدعاية والقمع العثماني، واستمر السلطان في تهيئة الأرض في فلسطين لليهود بتغيير القوانين، ومنحهم الجنسية العثمانية ومساعدتهم على الاستيطان وحمايتهم، كما اشترط على هرتزل ضمان موافقة الدول الأوروبية؛ لأن ذلك سيسهل المهمة، ليخبره هرتزل بأنه سيحرص على تهدئة هذه الدول.

وفي كتاب الباحثة الأردنية فدوى نصيرات “دور السلطان عبدالحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين”، والذي نقل الباحث إبراهيم غريبة أجزاءً منه كاشفًا عن تفاصيل الاستيطان اليهودي في فلسطين وتطوره في عهد السلطان عبدالحميد النص التالي: 

“بدأت في عهد السلطان عبدالحميد عمليات الاستيطان اليهودي المنظم، لتأخذ شكل المدن والمستوطنات المستقلة خارج المدن الرئيسة التقليدية لليهود، وهي؛ صفد والخليل والقدس وطبرية، وأنشأ اليهود مجموعة كبيرة من المدارس والمستشفيات والمصانع والبنوك، وتعرض نصيرات في كتابها جدولًا بأكثر من 100 مستوطنة أقيمت في عهد السلطان عبدالحميد، يتضمن الاسم والموقع وسنة التأسيس، كما عرضت معلومات عن عشرات الجمعيات الاستيطانية والشركات والبنوك التي كانت تمول وترعى عمليات الاستيطان والتشغيل لليهود في فلسطين”.

وقد سُمح للوكالة اليهودية برئاسة هرتزل العام (1897) امتلاك مجموعة واسعة من الأراضي والمستوطنات، وتأسس الصندوق القومي اليهودي عام (1900) الذي كان يركز على تمويل شراء الأراضي في فلسطين، وكان يملك العام (1908) حوالي 90 ألف دونم؛ 7 آلاف دونم منها في وادي الأردن، وألفان في سهل حطين.

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. حسان حلاق، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909 (القاهرة: دار النهضة، 1999).

 

  1. فدوى نصيرات، دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876-1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).

 

  1. نادية حياصات، رعاية الأيتام اليهود في مدينة القدس في العهد العثماني 1902-1909 (عمَّان: مؤتة للبحوث والدراسات، 2017).

تجاهلوا تحذيرات العرب وسهَّلوا إقامة المستوطنات

"الاتحاديون" دعموا الاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين

إن من يتعمق في تاريخ الدولة العثمانية في عهودها المختلفة، وبروزها كإحدى الدول المُستعمِرَة في العالم، ثم مرورها بمراحل الضعف والانهيار، وسيطرة حزب الاتحاد والترقي على مقاليد الأمور فيها وبدايات النهاية للأتراك، يُدرك جيدًا أن الموقف العثماني كان متساهلًا مع هجرة اليهود إلى فلسطين من جهة، ومن جهةٍ أخرى فقد رحَّب المسؤولون العثمانيون بتلك الهجرات، إضافة إلى ذلك فقد استطاع الصهاينة توظيف الأساطير والأقوال لزرع الحنين في نفوس اليهود، ودفعهم إلى الهجرة والاستيطان في القدس وما حولها، وشراء الأراضي وحيازتها خارج أسوار القدس، وبناء المستوطنات اليهودية لزيادة أعداد اليهود في فلسطين ومع مرور الوقت فرض سياسة الأمر الواقع.

لقد استفاد الصهاينة من أجل تحقيق أهدافهم من مداخلات الدول الأوروبية لدى الباب العالي، عبر وجودهم في إسطنبول لمناقشة مسألة هجرة اليهود إلى فلسطين، وأيضًا النشاط القنصلي الواسع لقناصل الدول الأوروبية، وبخاصة بريطانيا، في كل من بيروت ودمشق والقدس، ودفعهم باتجاه تسهيل تهريب اليهود وهجرتهم إلى فلسطين، وتسهيل إقامتهم فيها، وشراء الأراضي والأملاك من كبار التجار والمُلاك خدمةً لمصلحة المشروع الصهيوني.

ولا يمكننا أن نغفل فساد الإدارة التركية في متصرفية القدس، واتساع مجال الرشوة لديهم، وتسهيلهم لكل الأنشطة والأعمال التي كان يقوم بها القناصل الأوروبيون، إضافة إلى أساليب الخداع والتمويه الذي مارسه اليهود.

بدأت حركة الاستيطان اليهودي عام (1855) عندما تمكَّن اليهودي موشي مونتفيوري، المتمتِّع بالحماية الإنجليزية من شراء أرضٍ خارج مدينة القدس من غصون ابنة حسين آغا الدزدار، وبُنِي عليها بعد أربعة سنوات، بعد أخذ الإذن بالبناء من إسطنبول، إذ بُنِي عليها عشرون بيتًا، ليكون هذا الحي أول مستوطنة يهودية في فلسلطين.

تتابع الأمر بعد ذلك، ومع مرور الوقت ازداد عدد اليهود في فلسطين، فعلى سبيل في سنة (1880) بلغ عدد اليهود في فلسطين حوالي 25000 نسمة؛ أي ما يمثل 5% من السكان، الذين كان أغلبهم من المهاجرين، وتركزوا في أواخر القرن العشرين في القدس بصفة رئيسة، وطبرية، وصفد، والخليل، باعتبارها مدن مقدسة لدى اليهود.

تأسست أول مستوطنة صهيونية في خلال عصر الدولة العثمانية على يد اليهودي موشي مونتفيوري، وبُني فيها عشرون بيتًا.

ومن الحركات الصهيونية اليهودية التي هاجرت إلى أرض فلسطين حركة “خيبات تسيون”؛ أي العودة إلى فلسطين، وقد جاءت ردةَ فعلٍ على المذابح التي وقعت في روسيا لليهود، واتجه جزء من الشباب اليهود في الجامعات الروسية من جماعة تُدعى “بيلو” إلى فلسطين خلال الفترة من سنة 1882-1884، وبدأوا بالتعاون في وضع أساس المستوطنات اليهودية واستمرارها.

والحقيقة أن الأمل الذي عقده غالبية السكان العرب على وصول تركيا الفتاة عام (1908) إلى السلطة، وإحلالها محل السلطان الأحمر عبدالحميد الثاني، الذي سرعان ما أصابه الإحباط، وقد أثارت سياسة تتريك الأقاليم العربية، واستخدام اللغة التركية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة، الاحتجاج والممارسات المعادية للأتراك.

اتضحت ردة الفعل العربية من خلال ما أشارت إليه الصحف الفلسطينية المحلية، إلى ممارسة جماعات الضغط في الدول الغربية العمل لصالح اليهود، بعد قيام ثورة تركيا الفتاة، وأن السكان العرب أصبحوا لم يحتملوا المنافسة معهم؛ إذ إن المهاجرين الجدد لم يكونوا يدفعون الضرائب العثمانية الباهظة، وكذلك لم يكونوا يعانون من الفساد الفظيع للسلطات التركية المحلية، لوجودهم تحت حماية القناصل، إضافة إلى قدرة اليهود على تنظيم أنفسهم والمنافسة مع غيرهم وكذلك النمو الاقتصادي السريع.

كما أسهمت بعض الصحف الغربية في الدعوة إلى الهجرة إلى فلسطين، من خلال استعراضها حياة المهاجرين في فلسطين، وتحسن معيشتهم وحياتهم، وعن مشاركة اليهود في هيئات السلطة البلدية المحلية.

ازداد عدد اليهود في فلسطين، فبحلول عام (1914) أصبح سكان القدس من اليهود حوالي خمسة وعشرين ألف نسمة، وفي طبرية حوالي خمسة آلاف نسمة، وصفد سبعة آلاف نسمة، وفي حيفا حوالي عشرة آلاف نسمة، وسرعان ما ظهرت في ضواحي يافا مدينة تل أبيب التي كانت تسكنها أغلبية يهودية، ومع ازدياد الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين ازدادت مقاومة العرب لتلك الهجرة، واختلفت أشكالها وأصبحت أكثر تنظيمًا، ونشر الصحفيون العرب في المطبوعات الدورية قائمة بكل المستوطنات اليهودية، ومعلومات عن المستوطنين، وكذلك أسماء من باعوا أراضيهم لليهود وقسموهم إلى ثلاث فئات:

 | مُلاك الأراضي، وكثير منهم من أصول لبنانية، لم يمارسوا الزراعة وفلاحة الأرض.

 | السلطات التركية، التي كانت تصادر أراضي الملاك العرب لعدم سدادهم الضرائب، ثم تبيعها على اليهود.

 | ملاك الأراضي العرب، وغالبيتهم من النصارى.

وقد مارس صهاينة اليهود أساليبهم المعهودة؛ من ممارسة تقديم الرشوة إلى الباشوات، بهدف السماح لهم بشراء قطع الأراضي في فلسطين، وحذَّر العرب رجال الاتحاد والترقي بخطورة الهجرة اليهودية على الأتراك قبل العرب، ورغم الاحتجاجات والبرقيات العربية إلى إسطنبول من تجريد السكان العرب من أراضيهم من قبل المنظمات الصهيونية، إلا أنها لم تكن ذات جدوى.

سار رجال الاتحاد والترقي على نفس سياسة العثمانيين في دعم الحركة الصهيونية والسماح لهم بالتوسع في إنشاء المستوطنات.

  1. أحمد حلمي سعيد، النشاط اليهودي في الدولة العثمانية (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2011).

 

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. إيرما لفوفنا فادييفا،اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).

 

  1. مروان فريد جرار، ” الاستيطان الصهيوني في مدينة القدس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى العام 1967م”، مجلة الدراسات الاجتماعية، جامعة العلوم والتكنولوجيا، فرع جنين، ع. 38 (2013).
تشغيل الفيديو

اخترقوا عقول السلاطين وسيطروا على أخطر المناصب

يهود الدونمة صهاينة داخل قصور الحكم العثمانية

تُعد دراسة تاريخ العلاقة بين اليهود والدولة العثمانية، المفتاحَ التاريخي لفهم التجاذبات والتفاهمات المتناغمة بين التُّرك والصهاينة، فقد كان اليهود يبحثون عن إنقاذ العِرق، وعن بيئة حاضنة لهم ولأموالهم، بينما كان العثمانيون في حاجة إلى أموال اليهود وخبرتهم للمساهمة في المشروع الاستعماري والتوسعي للدولة.

وعلى الرغم من الحرية التي تمتع بها اليهود تحت حماية الدولة العثمانية، فإن واقع الشتات وحلم بناء دولة بهوية دينية، ظل يحرك اللاشعور الجماعي لصهاينة اليهود، وأمام هذا الإكراه المؤسساتي والهوياتي، فقد طفت على السطح فرقة “يهود الدونمة” في القرن 17 على يد سبتاي زيفي (1626-1675)، وادعى بأنه المسيح المخلص الذي جاء لينقذ بني إسرائيل، وينهي حالة الشتات التي كان عليها أتباع الديانة اليهودية، وإنشاء مملكة إسرائيل في أرض الميعاد.

إن ظهور طائفة الدونمة يشكِّل الإرهاصات الأولى لتبلور مفاهيم الصهيونية في بُعدها الأيديولوجي والسياسي، على اعتبار أن دعوة سبتاي زيفي كانت تعبيرًا شاذًّا لم يتقبله حتى بعض يهود الدولة العثمانية، وهو ما دفع ببعضهم إلى الوشاية بصاحب “الدعوة الجديدة” لدى البلاط العثماني، ليضطر إلى إشهار إسلامه ولو “تُقية”؛ خشية اتهامه بالخروج على الدولة العثمانية وتأسيس تنظيم يسعى إلى الانفصال عن السلطنة، فاختار الإسلام وتسمى باسم “محمد عزيز أفندي”.

كان ظهور يهود الدونمة يشكل الإرهاصات الأولى للحركة الصهيونية التي احتلت فلسطين بتفاهمات عثمانية فيما بعد.

وإذا كان البعض يقطع بأن يهود الدونمة كانت لهم أهداف سياسية تمكينية، تطمح إلى السيطرة على السلطنة العثمانية من داخلها، بتحقيق مشروع سياسي متكامل يهدف إلى فك ارتباط الدولة العثمانية عن الولايات العربية من جهة، وزيادة سخط الشعوب الإسلامية على سياسة التتريك من جهة أخرى، فإننا نعتقد بأنهم كانوا يريدون تحقيق حلم الدولة خارج حدود الدولة العثمانية، التي لم تكن يومًا أرضًا للميعاد، على خلاف باقي المناطق التي كان يتم الترويج لها (فلسطين، اليمن، الحبشة…). هذا المعطى تُؤكده دعوة سبتاي نفسه، الذي نادى بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بالذات.

ولعل ما يؤكد هذا الطرح، هو غياب ردة فعل خشنة من طرف الدولة العثمانية تجاه أتباع سبتاي زيفي، سواء ممن اعتنقوا منهم الإسلام ظاهريًّا، أو ممن أصروا على الاحتفاظ بيهوديتهم، وهو ما يقطع بأن العثمانيين كانوا على علم بأن المشروع السياسي لليهود لم يكن موجهًا لإسقاط بنية الدولة، وإنما كان موجهًا لتأسيس كيانٍ سياسي على أرض فلسطين، وهو ما لم تعارضه السلطنة بأساليبها الخشنة ولو ادعى أتباعها العكس.

إن دهاء مؤسس الفرقة قد جعله يجد طريقه نحو مؤسسات الدولة العثمانية، التي قامت بتعيينه “رئيسًا للآذنين”، وهو ما أزعج أتباعه في البداية، قبل أن يقنعهم بأن هذا التكتيك هو طريقهم لنشر الدعوة الجديدة، وقد خاطبهم بالقول: “أنا أخوكم محمد البواب، هكذا أمرني فامتثلت، لقد ذكرت الكتب اليهودية المقدسة بأن المسيح سوف يُتبع من قبل المسلمين”.

علم العثمانيون أن المشروع السياسي للصهيونية لم يكن موجهًا لإسقاط بنية الدولة، وإنما كان موجهًا لتأسيس كيان سياسي في فلسطين.

ولقد مكَّنت مرونة أتباع هذه الفرقة من الوصول إلى مناصب قيادية في الدولة، ومنهم من تقلَّد منصب الصدر الأعظم كما هو الحال بالنسبة لمدحت باشا، الذي عُرف عنه أنه كان يهوديًّا يُبْطِنُ حقيقة دينه، لكي ينجح في تولي ولايات عثمانية مهمة مثل ولاية سوريا، كما يُنسب إليه عزل السلطان عبدالحميد وتدبير مؤامرة اغتياله بعد ستة أيام من عزله.

إن تأثير يهود الدونمة في القرار السياسي العثماني يرجع إلى تنبُّههم إلى قوة الإعلام وقدرته على توجيه الرأي العام وفق أجندات التنظيم، يؤكد ذلك، أنه لم يجرؤ أحد في ذلك الحين على التعرض لهؤلاء في أية صحيفة أو مجلة؛ لأن أكثر الصحف والمجلات مملوكة للدونمة.

ويمكن القول بأن يهود الدونمة قد استطاعوا اختراق بنية القرار السياسي العثماني، وساعدهم على ذلك فساد النظام وسهولة شراء المواقف، وكسب تأييد الممسكين بالقرار السياسي في الدولة، حتى الأصوات التي كانت تحاول أن تحذر منهم أو التصدي لهم كانوا يتقدمون “بالشكاوى إلى أقطاب الدولة لمصادرة الردود المعارضة لهم، والتنكيل بأصحابها” وخاصة أصحاب الجرائد والمجلات منهم.

  1. سنان صادق جواد “يهود الدونمة: نشأتهم وأثرهم في الدولة العثمانية حتى عام 1909″، مجلة ديالى، ع. 55 (2012).

 

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. إيرما لفوفنا فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).

 

  1. ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).