الديانة الزرادشتية:
تشكلت في ثقافة الفرس ولا تزال تعيش صحوتها بينهم
وُصِف زرادشت في كُتب التاريخ بأنه رجل دين فارسي، والمؤسس الأصلي للديانة الزرادشتية التي انتشرت في فارس القديمة وبقيت إلى القرن الإسلامي الأول، حيث اندثرت وتلاشت تقريبًا بعد دخول الإسلام بلاد فارس، غير أن تأثيراتها وفلسفتها بقيت تشغل حيزًا كبيرًا من ثقافة المجتمع الفارسي، وأرخت بظلالها على تصوراتهم الدينية خاصةً على من يعيش في إيران ومحيطها، إذ تعد إيران الحاضنة الشرعية للديانة الزرادشتية قديمًا.
عاش زرادشت في مناطق بين أذربيجان وكردستان وإيران الحالية، وبقيت تعاليمه وديانته مهيمنة على مناطق واسعة في فارس، وفي فضائها بأواسط آسيا ومركز نفوذها التاريخي.
فهم نشأة مؤسس الديانة الزرادشتية قبل توسعها وانتشارها، وفهم عقليته كذلك، يستوجب فهم تأثيراتها على حاضنتها الفارسية والشعوب الأخرى المتأثرة بها، والتي امتدت ونشطت في تاريخ الفرس حتى انتصار المسلمين عليهم في معركة القادسية في السنة 15هـ (636م)، وانتهت معها أسطورة إمبراطورية فارس القديمة للأبد.
وعلى الرغم من انتهاء إمبراطورية الفرس، إلا أن تعاليمهم وثقافتهم بقيتا مسيطرتين على عقلية الكثيرين منهم، خاصةً الزرادشتية، التي ترمز للطهر والنقاء في اللغة الإيرانية الحديثة، وتتألف كلمة زرادشت من كلمتين: (زرت، اوشتره)، أي الذهب والجمال، لذلك ترجمها المستشرقون بصاحب الجِمال الذهبي، بينما فسَّرها آخرون بمعنى النور والضياء، ليترجم الاسم بذي النور والضياء الذهبي، أو (الهالة الربانية).
أما زرادشت فهو ابن يورشب من قبيلة سبتياما بأذربيجان، وأمه فارسية من إيران الحالية، ولد في القرن السادس قبل الميلاد، واختلفت المصادر في التحديد الدقيق لتاريخ مولده، غير أن المؤكد أنه ولد في وقت انتشار القبائل الهمجية بإيران، وهو الوقت الذي انتشرت فيه عبادة الأصنام، وسيطر السحرة والمشعوذون على أذهان البسطاء، وعلى الرغم من أن أذربيجان مسقط رأس زرادشت، إلا أنه تنقّل في مناطق عدة، والتقى خلال رحلته للبحث ببعض بني إسرائيل وتعرف على ديانتهم، ثم عاد إلى أذربيجان، ولم تطمئن نفسه إلى اليهودية.
لم تخلُ شخصية زرادشت من الأساطير التي أحاطته بكثير من القدسية عند أتباعه، الذين ينسبون إليه كتاب (الأمينستا)، وشرحه (الزندافستا). ضمَّن زرادشت في الأمنيستا فلسفته في تقسيماته بين الروح والجسد والوجود، وأن العالم يرتكز على النور والظلمة أو الخير والشر، على اعتبار أن العالم قائم على الصراع الدائم بين قوتين متضادتين، الخير ويمثله إله النور (أهورامازدا)، والشر ويمثله إله الظلمة (أهرمِان)، وينتهي هذا الصراع بين النور والظلمة بانتصار إله النور في آخر الزمان، ولذلك تسمى الزرادشتية أحياناً باسم المازدية Mazdaism، وأطلق عليها المسلمون اسم المجوسية، والمجوسية اسم ديانة عبدة النار، وهي من الطقوس الدينية التي تعبَّد بها زرادشت.
تصف الروايات التاريخية الفارسية زرادشت بأنه كان طبيبًا بارعًا، وحكيمًا وفيلسوفًا، محاولاً الوصول إلى سر الكون بالنظر والتأمل العقلي، ولأن مجتمعه الأساس كان وثنيًّا غارقًا في عبادة الأصنام والسحر والكهانة، تعرض للاضطهاد في بادئ دعوته، وتقول الرواية أن تغير حظه بدأ مع مرض حصان الملك، الذي استُدعي زرادشت لعلاجه، وبعد نجاحه كافأه الملك بأن نشر عقيدته، ولما تزوج أحد كبار الدولة بابنته كافأه بأن فرض ديانته على الشعوب المجاورة.
ويقول مؤلف كتاب (الديانة الزرادشتية ملاحظات وآراء) أسامة عدنان: “لقد قسّم زرادشت الآلهة التي كانوا يعبدونها هو وأتباعه من بعده إلى ثلاثة آلهة، في مراتب متعددة، فالأعلى بينهم كان أهورا مزدا، والأوسط أميشا سبيندات، أما الثالث والأقل بينهم فكانوا مجموعة آلهة سماهم اليزاديين. ودعا زرادشت أتباعه للصلاة للآلهة المتعددة، لكنه دفعهم أيضًا لتقديم القرابين لهم من مال وحيوانات ودماء واعتبرها جزءًا مهمًّا من إثبات العبودية، وهو يشابه إلى حد كبير تقديم القرابين للأولياء والصالحين في بعض بلاد فارس الحالية”.
وهنالك سؤال مهم حول اختلاط (الإسلام الإيراني) بالزرادشتية، وصناعة مفاهيم جديدة اختلطت فيها قيم الإسلام ببعض العادات الزرادشتية، فصحيح أن الإسلام الإيراني هو الغالب اليوم عند معظم السكان الفرس، لكن كثيرًا من الطقوس التي أدخلت عليه هي في أساسها تعاليم أو فلسفة زرادشتية قديمة اختلطت بالإسلام وأضحت كأنها طقوس إسلامية، والإسلام النقي بريء منها تمامًا.
اختلطت تعاليم الزرادشتية القديمة بالإسلام الفارسي وفرضت عليه فكرها وطقوسها وتعاليمها حتى اليوم.
وعطفًا على ذلك يقول الباحث اللبناني جاد محيدلي في منشور له: “هناك مجموعتان رئيسيتان من الزرادشتيين، الإيرانيون والبارسيون، فالزرادشتيون الإيرانيون هم أولئك الذين بقوا في إيران إثر الفتح العربي، الذي جعل الإسلام في نهاية المطاف ديانة الأغلبية في البلاد، وعلى الرغم من العديد من القرون -التي بقوا فيها على ديانتهم- ، إلا أنه بقي عشرات الآلاف منهم فقط، كما أن دينهم معترفٌ به من قِبل الدولة – الإيرانية الحالية- ويمثلهم أحد النواب الزرادشتيين في البرلمان، وخصوصًا بعد الثورة الإيرانية عام (1979)، التي مهّدت الطريق لإنشاء الجمهورية الإسلامية الحالية، ولذلك طغت موجة عالية من الاهتمام بالتاريخ الفارسي القديم وبالزرادشتية على وجه الخصوص”، ويشير الباحث إلى أن الزرادشتية تشهد (صحوَةً) لدى العديد من الإيرانيين الذين يرغبون في التعبير عن عدم الرضا عن التعاليم الحالية في إيران، أما (البارسيون) فقد هاجروا من فارس إلى الهند إثر الفتح الإسلامي، واستقروا في الهند حيث يمكنهم ممارسة طقوسهم.
ومنذ أن اتخذت الدولة الساسانية الزرادشتية دينًا رسميًّا لها قبل الفتح الإسلامي، اعتقد أصحابها بوجود إلهين؛ أحدهما: (أهورامزدا) وهو إله للخير، والآخر: (أهريمان) وهو إله للشر، مستندين على تقسيم الفيلسوف زرادشت العالم إلى النور والظلام، وقد دعا أتباعه لعبادة كل ماله علاقة بالنور، ليتطور الأمر لدى الفرس حتى عبدو النار في نهاية المطاف.
لذلك أصبح دينهم قائمًا على عبادة النار، وتقسيم العالم إلى عالم للظلمة وآخر للنور، وزعم زرادشت أيضا أن نور الله في كل ما يشرق ويلتهب في الكون، وأمر بالاتجاه إلى جهة الشمس والنار ساعة تعبدهم؛ لأن النور في زعمه رمز إلى الإله، وأمر بعدم تدنيس العناصر الأربعة؛ وهي: النار والهواء والتراب والماء، ثم جاء من بعده من سَنَّ للزرادشتيين شرائع مختلفة، فحرَّموا عليهم الاشتغال بالأشياء التي تستلزم النار، فاقتصروا في أعمالهم على الفلاحة والتجارة، ومن هذا التمجيد للنار واتخاذها قبلة في العبادات تدرَّج الناس إلى عبادتها، حتى صاروا يعبدونها عينًا، ويبنون لها هياكل ومعابد، وانقرضت كل عقيدة وديانة غير عبادة النار.
وصلت الديانة الزرادشتية إلى مستوى من الانحطاط الأخلاقي لم تصل إليه ديانة أخرى على الأرض، إذ يقول الباحث مصطفى الأنصاري: “ولما كانت النار لا توحي إلى من يقدسونها بشريعة ولا ترسل رسولاً، ولا تتدخل في شؤون حياتهم، ولا تعاقب العصاة والمجرمين، أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أماكن خاصة، وفي ساعات معينة، أما في خارج المعابد، وفي دورهم ودوائر حكمهم، فكانوا يسيرون على هواهم، وما تمليه عليهم نفوسهم، أو ما توحي به مصالحهم، وعندما صار الأمر هكذا يُباح فيه كل شيء لأي أحد؛ أصبح أساس الأخلاق متزعزعًا، فصارت المحرماتُ النسبية -التي تواضعت على حرمتها طبائع أهل الأقاليم المعتدلة- موضعَ خلاف”
ويذكر ول ديورانت في قصة الحضارة عن الفرس أن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها، حتى إن الملك الفارسي يزدجرد الثاني الذي حكم في أواخر القرن الخامس الميلادي تزوج ابنته ثم قتلها، والملك بهرام جوبين كان متزوجًا بأخته في القرن السادس.
- أسامة عدنان، الديانة الزرادشتية ملاحظات وآراء (بغداد: آشور باني بال، 2016).
- سعد سمار، الآلهة أنهيتا دراسة التطور التاريخي (العراق: جامعة واسط، 2018).
- عبدالله العباداني، تاريخ الديانة الزرادشتية، ترجمة: عبدالستار كلهور (دهوك: مطبعة خاني، 2011).
- الشفيع الماحي، “زرادشت والزرادشتية”، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، الحولية 11، الرسالة 160 (2001).
- محمد الساعدي، “أبعاد فلسفية في الديانة الزرادشتية”، مجلة جامعة الزيتونة، ع.16 (2015).