بين القصف والحصار:
الأكراد تحت مقصلة العثمانيين الجدد
إن الباحث في شؤون العلاقات التركية الكردية، منذ ظهور سلالة العثمانيين على الساحة السياسية وإلى غاية حكم الأردوغانيين الجدد، قد يُنهك وهو يحاول الوقوف على طفرة أو حتى تغير طفيف في الخط السياسي بين العثمانيين الأوائل والجدد خصوصا في الشق المتعلق بالتعاطي مع المسألة الكردية من خلال تبني مجموعة من التكتيكات الكلاسيكية التي يصعب تمريرها على الجيل الكردي الحالي، الذي يبدو أنه راكم من التجارب التاريخية ما يؤهله لمقارعة السياسة التركية بكثير من الحنكة والدهاء السياسيَّيْن.
إن النضج السياسي الكردي راكمته قرون من الصراع ضد الهيمنة العرقية التركية التي يشكل حزب العدالة والتنمية امتدادا عنصريًّا لها، وهو ما أكدته مجموعة من الوقائع التي قطعت بأن أردوغان يتعامل مع الكرد بمنطق الخزان الاحتياطي في المحطات الانتخابية التركية قبل أن تصبح دماؤهم وأرواحهم مستباحة مباشرة بعد إغلاق مكاتب التصويت.
وإذا كان تاريخ العلاقات التركية الكردية مليئًا بالمواجهات الدموية غير المتكافئة، فإن السياسية التركية على عهد أردوغان تسير في نفس التوجه من خلال إلصاق تهمة الإرهاب بجميع الأكراد الذين يرفضون السياسة الإقصائية لأردوغان، وأيضا من خلال المقاربة الصلبة التي سار عليها الأتراك في حسم خلافاتهم السياسية مع مجموعة عرقية مهمة مثل الأكراد وهو ما تجسد على الأرض من خلال حادثة قصف روبوسكي سنة 2011م وأيضا حصار مناطق واسعة من مدينة ديار بكر سنة 2016م.
في هذا السياق، شكلت مجزرة روبوسكي جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان ذهب ضحيتها شباب في مقتبل العمر امتهنوا التهريب قسرا بعدما ضاقت بهم سبل العيش في ظل سياسة إقصائية تنتصر للسلالة وتستعلي للعرق، لينتهي بهم المطاف إلى أشلاء بشرية مختلطة مع أخرى حيوانية تجسد طبيعة التعامل الإرهابي التركي مع الأكراد، الذين لا يصنفون في خانة المواطنين الأتراك إلا إذا قبلوا بمنطق “السمع والطاعة” والعيش على هامش المجتمع فيما يشبه “المنزلة بين المنزليتين”، فلا هم مواطنون كاملو المواطنة ولا هم مستقلون كاملوا الاستقلالية.
لقد وجد الأتراك أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه، فمن جهة تواترت القرائن التي تقطع بمسؤولية سلاح الجو التركي في هذا القصف الذي أودى بحياة شباب كردي ربما لا يعون حتى أبعاد الصراع التركي الكردي، ومن جهة ثانية، فحتى الادعاء بأن القصف الجوي استهدف مجموعة ممن تصفهم أنقرة ب “الإرهابيين” يضع سمعة الاستخبارات التركية على المحك وطريقة تجميع وتصنيف المعلومات الاستخباراتية خاصة بعدما تبين أن تصنيف المعلومة وتقييمها كان خاطئًا وترتب عنه قصف جوي عشوائي ذهب ضحيته العشرات من دون جريرة أو ذنب.
وقد كان بإمكان أنقرة التعامل مع هذه الجريمة البشعة بنفس وطني يدحض المزاعم التي تقول بأن الأتراك يتعاملون مع الأكراد بنفس عرقي ويعتبرونهم على هامش المجتمع التركي، وذلك بتقديم المتورطين إلى العدالة ومحاسبتهم وفق ما تقرره اللوائح والقوانين الجنائية في تركيا. وعِوضا عن ذلك لجأ الساسة الأتراك إلى المنطق الإخواني القائل “لن نسلمكم إخواننا” وحاولوا المراوغة من خلال التعتيم على مجريات سير التحقيقات بل ناوروا من خلال محاولة استرضاء خواطر عائلات الضحايا ببعض المال الذي رفض المتضررون استلامه بإباء كبير وبتعفف أكبر.
لقد خلّفت مجزرة روبوسكي جرحًا غائرًا لدى الأكراد الذي تيقنوا بأن السياسة التركية تجاههم لم تتغير منذ أن قبِلوا بأن يُحكموا من طرف عناصر لا يُعرف لهم تاريخ ولا جغرافيا وإنما تسلطوا على المنطقة في غفلة من الزمان وتوسعوا على حساب الشعوب الأصلية قبل أن يخضعوهم لرحمتهم عن طريق أساليب الترهيب والترغيب والاحتواء.
بعد خمس سنوات من مجزرة روبوسكي، سيعلن بعض الشباب الكردي عن رغبته في التمتع بالحكم الذاتي في إطار السيادة التركية على مستوى منطقة صور وسط مدينة ديار بكر. ولعل هذا التعبير، الذي ربما تبلور بشكل متسرع ومن دون تحقيق بعض الشروط الذاتية والموضوعية، إلا أنه يظهر ردة الفعل التركية غير السائغة، المبالغ فيها من خلال فرض حصار على مناطق واسعة من مدينة ديار بكر كان من نتائجه سقوط 368 شخصا من المدنيين وتهجير ما يزيد عن 24 ألف شخص في الشهر الأول من الحصار الذي دام ثلاثة أشهر.
لقد عاشت ديار بكر أشهُرًا من المواجهات المسلحة غير المتكافئة جعلت الأكراد يتحملون ظروفًا غير إنسانية خاصة أن تركيا لم تفتح ممرات إنسانية لإجلاء الجرحى بل إن بعض العائلات الكردية لم يستطيعوا دفن موتاهم جراء الحصار التركي. هذا المعطى تؤكده شهادة أدلى بها أحد الأكراد لمنظمة العفو الدولية، حيث وصف أحد المشاهد المؤلمة لمقتل أحد أقاربه داخل منزله أثناء وقوع اشتباكات قرب مسكنه، وقد اضطرت العائلة للانتظار قرابة أسبوعين مع جثة آخذة في التحلل في منزلها قبل أن يسمح لهم بدفنها.
لن تكتفي آلة القمع التركية لحصار سكان ديار بكر ودفعهم إلى الهجرة القسرية في محاولة منها لاستكمال مشروع تغيير البنية الديموغرافية للمناطق الكردية، بل قامت بمحاولات قتل جماعية لسكان مناطق الحصار من خلال قطع المياه عليهم بصفة متكررة وهو ما تؤكده شهادة أحد قاطني منطقة “سيلوبي”، ذلك ما وثقته منظمة العفو الدولية، وأكدت بأن السلطات حرمتهم من المياه لمدة 20 يوما كاملة.
إن مجزرة روبوسكي وحصار ديار بكر أكدا بالملموس بأن أردوغان على نهج أسلافه، لا ينظر إلى الأكراد باعتبارهم مكونًا أصيلاً من مكونات الدولة التركية، وإنما يرى فيهم ورقة سياسية مجردة يسعى لاستخدامها كلما دعت الضرورة ولو تطلب الأمر شراء بعض الأصوات الكردية والضغط على بعضها الآخر من أجل استمالة جزء من الأكراد الذين أظهروا في مناسبات عديدة بأنهم ليسوا على قلب رجل واحد.