سوَّغُوا استعمارهم من خلال مرتزقتهم
احتلال الأتراك العثمانيين للجزائر براغماتية حققها لهم القراصنة
يعدُّ دخول الأتراك إلى الجزائر، بمسماها الحالي، حدثًا يحتاج إلى الكثير من التفصيل التاريخي والتأصيل المنهجي، بالنظر إلى سياسة التعتيم الممنهجة على هذه الفترة من تاريخ المنطقة، التي يحاول البعض شطبها من تاريخ شمال إفريقيا وكأن الأتراك كانوا طيورا مجردة مَرَّت من السماء لتترك ظِلًّا، ولا تترك أثرًا.
إن حقيقة الشواهد التاريخية والقرائن المادية، تقطع بأن دخول القراصنة الأتراك إلى الجزائر كان لأهداف ذاتية، ولم يكن مرتبطًا بخلفية سياسية أو توسعية، قبل أن يتضخم “أنا” الأخوَين بارباروسا وتكبر معهما أطماعهما، خاصة بعد النجاحات التي حققاها في مجال القرصنة البحرية، ليوجها تركيزهما نحو تأسيس دولة لهما في بلاد الغرب الإسلامي مستَغِلَّيْنِ في ذلك حاجة سكان المنطقة لنجدتهم من الاستعمار الإسباني الذي نكّل بالعباد وأسرف في استغلال خيرات البلاد.
وفي هذا السياق، جاء إخضاع مدينة الجزائر لسلطان العثمانيين ضمن سياقات خاصة لم يتدخل الباب العالي في تدبيرها أو توجيهها، وإنما -وكما هو حال العثمانيين- ركبوا على الأوضاع واستغلوا حاجة القراصنة عروج وخير الدين إلى الغطاء الشرعي والسياسي من أجل وضع اليد على الجزائر ولو في إطار لا مركزية ترابية تفرض الحد الأدنى من مظاهر السيادة العثمانية على هذا البلد المغاربي.
إن الرجوع إلى مذكرات خير الدين بارباروسا يقطع بأن اتصال العثمانيين بالقراصنة كان بعد دخول هؤلاء إلى مدينة الجزائر، ولم يكن أبدًا بتدبير وتوجيه من قبل السلطان سليمان القانوني، وهنا نجد خير الدين يؤكد على هذه النقطة فيقول: “في أثناء اتصالي بالسلطان سليمان خان بن سليم خان، ورد علي فرمان سلطاني، هذا نصه: “كيف خرجت أنت وأخوك عروج من جزيرة ميديلي وفتحتم الجزائر؟ وما الغزوات التي قمتم بها في البر والبحر حتى الآن؟ دوّن كل هذه الأحداث بدون زيادة أو نقصان في كتاب، وعندما تنتهي أرسل إلي نسخة لأحتفظ بها في خزانتي”.
كشفت مذكرات خير الدين بارباروس جهل سلاطين العثمانيين بما يحدث في الجزائر قبل احتلالها.
جوابا على هذا الأمر السلطاني الرسمي كتب خير الدين بارباروسا ما يلي: “كان أبي أنيقًا شجاعًا أنجبت له أمي أربعة إخوة هم: إسحاق الذي كان أكبر إخوتي ثم أخي عروج ثم أنا ثم إلياس، مد الله في عمر الجميع ورزقهم النصر”.
ولعل مراجعة شهادة القرصان خير الدين تقطع بأن العلاقة بين القراصنة الأتراك والسلاطين العثمانيين كانت علاقة سيد برعيته وحاكما بمحكوميه وقائدًا بجنوده، أُضيف إليها حمولة روحية يسردها خيرالدين بارباروسا بالقول: “إن من فاز بدعاء السلطان تكون عاقبته خيرًا ومن دعا عليه السلطان فإنه يظل غارقا في بحر المصائب لا يخرج منها”.
إن رصد وتوثيق العلاقة بين الأخوين بارباروسا والدولة العثمانية هي عملية جد مهمة بالنظر إلى المسؤولية القانونية والأخلاقية والدينية التي تتحملها الدولة العثمانية جراء تصرفات هذين القرصانين، خاصة أن بعض الأحداث الدموية تمت قبل تنصيب خير الدين بارباروسا واليًا على الجزائر.
ومن خلال تبني مقاربة التوثيق المنهجي، يتبين بأن طموحات الأتراك في المنطقة لم تكن يومًا لهدف من أهداف الدين وإنما لدنيا يصيبونها وأراضٍ يخضعونها، لتلتقي غاية القراصنة في تأسيس دولة لهم، ولو تحت المظلة العثمانية، مع غاية العثمانيين في توسيع نفوذهم الذي أرادوا له أن يصل إلى المحيط الأطلسي، هذا المعطى يؤكد عليه خير الدين بالقول: “لقد بات أنه من اللازم علينا أن نؤسس لأنفسنا دولة جديدة في غربتنا هذه”.
على جانب آخر، فإن مطالعة الكتابات التي أرخت لنشاط القراصنة الأتراك تقطع بأن هؤلاء لم يقوموا بفتح شبر واحد في المنطقة التي يطلق عليها البعض “بلاد الحرب” رغم عمليات القرصنة التي قام بها عروج وخير الدين والتي كان الغرض منها الاستيلاء على السفن وبعض الغنائم والأسرى والعودة بهم إلى مقر القيادة في جيجل شرق الجزائر، ذلك أنهم لم يكونوا مهتمين بالدرجة الأولى بالحصول على أراضي الشواطئ المقابلة للبحر الأبيض المتوسط”.
ويمكن القول بأن سكان الجزائر تعاملوا بحسن نية مع الأخوين بارباروسا معتقدين أنهما أَخَوَيْهِم في الدين، على عكس المغاربة والتونسيين الذين تعاملوا بحذر مع أطماع الغزاة الأتراك في المنطقة.
انطلاقا مما سبق يبدو جليًّا أن احتلال الأتراك للجزائر كان لاعتبارات براغماتية مرتبطة بالقرصنة في غرب البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى رغبة الأخوين بارباروسا في تأسيس دولة لهم تحظى بمباركة الباب العالي، يُضاف إلى ذلك دافع شخصي مرتبط برغبة عروج بارباروسا في الانتقام من المسيحيين الذين سبق أن أسروه خلال بدايات نشاطه في القرصنة، ويقول الكاتب الأميركي وليام سبنسر في هذا السياق بأن عروج كانت تحدوه روح الانتقام الشخصي ضد المسيحيين فحملها معه إلى المياه الإسبانية والإيطالية.
- مبارك الميلي، تاريخ الجزائر في القديم والحديث (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، د.ت).
- وليد فكري، الجريمة العثمانية (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2021).
- مذكرات خير الدين بربروسا، ترجمة: محمد دراج (الجزائر: شركة الأصالة، 2010).
- صالح عباد، الجزائر خلال الحكم التركي 1514-1830 (الجزائر: دار هومه، 2012).
- عبدالقادر الميلق، تأثير ثورات الموريسكيين الأندلسيين على العلاقات الجزائرية الإسبانية، رسالة ماجستير، جامعة غرداية (2012).
- وليام سبنسر، الجزائر في عهد رياس البحر، ترجمة: عبدالقادر زبادية (الجزائر: دار القصبة للنشر، 2007).