موقف الاتحاديين من الهجرات الصهيونية
من الملفات المُهمة في تاريخنا الحديث، مسألة موقف الدولة العثمانية من الهجرات الصهيونية إلى فلسطين في مطلع القرن العشرين، وقد جرى تناول هذا الملف بقدر كبير من الأيديولوجية، لا سيما من جانب تيار الإسلام السياسي، الذي ذهب إلى حد تقديس الدولة العثمانية، ووصفها بأنها “دولة إسلامية مُفترى عليها”، وأن سقوطها كان بفعل الغرب، نكايةً في موقفها المعارض للهجرات الصهيونية، وتمهيدًا لإقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين.
وسوف نقتصر هنا في مقالنا هذا على دراسة المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، وهي التي عُرفت بـ”حكم الاتحاديين”، وهم رجال الاتحاد والترقي، الذين نجحوا في الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني في عام 1908، وسوف نرى مدى توافق رجال الاتحاد والترقي مع حركة الهجرات الصهيونية إلى فلسطين في فترة حكمهم.
وتكاد تُجمِع معظم الدراسات الفلسطينية التي تناولت هذه الحقبة، على تزايد الهجرات اليهودية الصهيونية إلى فلسطين في عهد الاتحاديين، وقد ترتب على ذلك، التوسع في حركة شراء الأراضي من جانب هذه الجماعات الصهيونية، هذا فضلًا على تأسيس البنوك الصهيونية في فلسطين، لتشجيع حركة الاستثمار بين المهاجرين الصهاينة.
وتشير دراسة فلسطينية حديثة، إلى مدى انزعاج الفلسطينيين المعاصرين من هذا النشاط الاستيطاني الصهيوني، وقد تصدَّت الصحافة الفلسطينية آنذاك للإشارة إلى هذا النشاط، والتشهير به، وبيان خطورته على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على التركيب السكاني في فلسطين.
ومن أهم هذه الصحف الفلسطينية صحيفة “فلسطين”، التي رأس تحريرها الكاتب الشهير عيسى العيسى؛ إذ شنَّت هذه الصحيفة حملات شعواء على هذا النشاط الاستيطاني، لا سيما في الفترة من 1911- 1914، وتوقفت الصحيفة بعد ذلك، ومن النقاط المثيرة في هذا المجال أن الصحيفة قد أبرزت الدور الذي قام به الموظفون العثمانيون في فلسطين من حيث مساعدة المستوطنين الصهاينة، بل أشارت إلى إشراف المتصرف “الحاكم” العثماني بنفسه على رعاية المستوطنات الصهيونية، والاطمئنان على أحوال المستوطنين.
وكان من أكثر مقالات الصحيفة نقدًا لهذا الدور، مقالٌ بعنوان: “زيارة المتصرف”، أشارت إلى زيارة المتصرف العثماني بنفسه لهذه المستوطنات، وقد ناشدت الصحيفة السلطات العثمانية للتوقف عن ذلك، ومراقبة الهجرات الصهيونية التي تأتي إلى فلسطين عن طريق ميناء حيفا.
وترتب على ذلك غضب متصرف القدس العثماني على الصحيفة، وصدر القرار من الداخلية العثمانية ومتصرف القدس بإغلاق الجريدة، تحت زعم أنها بحملاتها هذه تثير الضغينة والبغضاء بين سكان متصرفية القدس.
وقد قدَّمت الباحثة الأردنية، فدوى نصيرات دراسة مستفيضة عن هذه الفترة، وموقف الإدارة العثمانية في زمن الاتحاديين من الهجرات الصهيونية إلى فلسطين، من خلال صحيفة فلسطين، وانتهت الباحثة إلى أنه: “شنَّت صحيفة فلسطين حربًا قوية ضد سياسة الدولة العثمانية، التي سهَّلت نشاط الصهاينة على أرض فلسطين، من خلال تغطيتها المستمرة للعلاقة بين المتصرف العثماني والمستعمر الصهيوني”.
ويدافع المؤرخ التركي أحمد آق كوندز عن هذا الموقف، مُلقيًا بمسؤولية ذلك على عاتق رجال الاتحاد والترقي الذين انقلبوا على السلطان عبدالحميد الثاني، ومن وجهة نظره فقد وقفت الدولة العثمانية -وخاصةً السلطان عبدالحميد الثاني- في وجه الهجرات الصهيونية إلى فلسطين، ومن هنا انقلب الاتحاديون على السلطان، وقاموا بتسهيل هذه الهجرات.
وفي الحقيقة لابُد من الإشارة إلى أن ضعف الدولة العثمانية، سواء قبل الاتحاديين أو في عصرهم، كان السبب الرئيس الذي ساهم في ازدياد المستوطنات الصهيونية وتوسعها في فلسطين، وأن حاجة الدولة العثمانية إلى رؤوس الأموال اليهودية قد جعلها تغض الطرف عن هذه الهجرات، هذا فضلًا عن فساد بعض كبار الموظفين العثمانيين في متصرفية القدس، وتسهيلهم أوضاع المستوطنات الصهيونية.