كاهن بيت النار… البرامكة
ينتسب البرامكة إلى برمك الذي كان كاهن بيت النار في مدينة بلخ – وولاية بـلخ من الولايات الـ(34) في أفغانستان تقع شمالي البلاد وعاصمتها مزار شريف – كان فارسيًّا عريق النسب، فلم يكن يتاح لأحد أن يتولى تلك الأعمال الدينية إلا إذا كان ذا نسب. وقد أتاحت أحوال الدعوة لقيام الدولة العباسية وأحداث الثورة المتلاحقة لأحد أبناء ذلك الكاهن أن يطفو على سطح الأحداث كما طفا غيره من بني جنسه، وقد ذكر الطبري تلك الأخبار في مُؤَرَّخِهِ “الأمم والملوك” وغيره.
بدأ خالد البرمكي تاريخه في معسكر قحطبة بن شبيب الطائي الذي زحف إلى العراق، وكان يتقلد الخراج والغنائم. وقد أظهر كِفايةً ومقدرة لفتت أنظار القائد العباسي فزاده تقديرًا، ثم حضر الدخول إلى العراق وبيعة أبي العباس ووُلِّيَ ديوان الخراج والجند وتولى وزارة التنفيذ بعد مقتل أبي مسلمة الخلال – وتلك مناصب فيها عصب الدولة – استمر في عهد أبي جعفر المنصور في الوزارة، واستمر نفوذه نحو المركزية والأعمال الإدارية، والقضاء على أي حركة تهدف إلى هدم الدولة الناشئة في تأسيسها.
وَلَّى هارون الرشيد يحيى البرمكي وزارة التفويض وأطلق يده في كل أمر لتحقيق نظرية المشاركة الكاملة من غير العرب ذلك السبب الذي عُدَّ سببًا من أسباب سقوط الأمويين – وقد أدت أضرت تلك النظرية بالعباسيين إذ تولى أمرها الفرس والترك-، وتولى الفضل بن يحيى المشرق كله سنة 178هـ، وهو منصب لم يكن ليتولاه إلا الأمراء. وأُطلقت يده في كتائب للخليفة حسبما ذكرت المصادر، وتولى جعفر ابن يحيى البريد ودُور سَكِّ العملة، ثم تولى المغرب كله سنة 186هـ. فأصبح المشرق والمغرب تحت السيطرة البرمكية وفي إدارتها.
وتذكر المصادر التاريخية عن النفوذ البرمكي والثروات التي جمعوها والحياة التي عاشوها وهي أقرب إلى منافسة السلاطين وليس الوزراء، ومدح الشعراء، ووثق تلك الأحوال في قصائدهم لوصف حياتهم ولهوهم.
ولم تكن دار البرامكة تقل بهاءً عن دار الخلافة نفسها. فقد ذُكِرَ أن جعفر بن يحيى البرمكي أنفق على بناء داره عشرين مليون درهم – ولا يُستغرب المستوى الاقتصادي للدولة آنذاك والرفاهية التي وصل إليها من سيطروا على مفاصل الدولة وأتباعهم -، وتلك الأحوال أثارت عوامل كثيرة متضادة بين من تَقَلَّدوا مناصب في الدولة والأسرة الحاكمة، ناهيك عن الأعداء واستغلال الأحداث للنيل من الدولة واستقرارها.
كانت نكبة البرامكة ويصورها مؤرخوها المعاصرون أمثال الطبري فيقول: “في آخر ليلة من المحرم سنة 187هـ بعد أن عاد الرشيد من حجه، ووصل إلى الأنبار (مدينة عراقية قديمة تقع ضمن أراضي مدينة الصقلاوية على الضفة الشرقية لنهر الفرات) دخل إلى فراشه مبكرًا على غير عادته، فلما انصرف جعفر من عنده أرسل وراءه مسرورًا كبيرَ خدمه وأمره بضرب عنقه، وقبل أن تنقضي تلك الليلة أمر الرشيد بمن يقبض على يحيى البرمكي وابنيه وحبسهم وأمر بمصادرة أموال البرامكة وفَرَّقَ الكتب على الولاة بالأقاليم بذلك وبالقبض على أنصارهم ومواليهم وحذر الناس من إيواء أحد منهم”.
يرجح بعض المؤرخين أن من أسباب اتخاذ الرشيد تلك الأعمال ضد البرامكة ميلهم إلى العلويين، وتسلطهم في الدولة، وظهور سلطانهم على سلطان الخليفة هارون الرشيد، كما تسلّطوا على أموال الدولة، فأخذوا يرتعون فيها حتى بلغ ما كانوا يمتلكونه أكثر مما كان يمتلكه الخليفة، وكانوا يُكْثِرون من العطايا ويبالغون فيها لأنفسهم ولمن أرادوا، واستغلوا أعداء الدولة ذلك الفارق في التحكم في تسيير الدولة واستنزافها، غير الأسباب الشخصية التي لا تذكرها المصادر المعاصرة وتلك الأحداث ضد البرامكة ليست فُجائية.
كان العنصر العربي في تلك الأحداث قوة تُستعاد من خلالها القوة المطلقة بيد الفرس ليعود التوازن في سياسة الدولة وإدارتها، وكثير من العوامل تتداخل متشابكة صنعت أحداثًا ضد الدولة كانت في غنى عنها.
فكارثة أن يُضرب الإسلام بالإسلام للوصول إلى المناصب القيادية…