العثمانية الجديدة:
توجه السياسة التركية في القرن الحادي والعشرين
يجمع الباحثون على أن الحلم الأكبر لتركيا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين كان الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، هذا الحلم الذي يتوافق مع العلمانية الأتاتوركية- نسبة إلى آتاتورك- وأيضًا يتفق مع مشروع النهضة الاقتصادية لتركيا، بحيث تصبح تركيا نموذجًا اقتصاديًا جديدًا، بعد نموذج النمور الآسيوية. لكن هذا الحلم تبدد سريعًا، مع مماطلة الاتحاد الأوروبي أثناء مفاوضات انضمام تركيا، وأيضًا نتيجة عدم قيام تركيا ببعض الإصلاحات المطلوبة على المستوى التشريعي والسياسي، هذا فضلاً عن مسألة تقسيم قبرص، والوجود التركي هناك.
عندئذٍ بدأت تركيا في إحداث تغيرات كبرى في سياستها الخارجية. وبدأ وزير خارجيتها آنذاك أحمد داود أوغلو في وضع أسس جديدة في استراتيجية السياسة الخارجية التركية، في الاتجاه شرقًا، بدلاً من التركيز على الغرب الأوروبي. ويذكر البعض أن الرؤية الجديدة لأوغلو تمحورت على النحو التالي: “أن الشرق الأوسط يشكل الحديقة الخلفية لتركيا، ودعا بلاده إلى لعب دور في هذه المنطقة”. وفي الوقت نفسه توافقت الرؤية التركية مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث رأت أمريكا: “أن دور تركيا في المنطقة سيضعها في مواجهة إسلام إيران “الشيعي”، إسلامًا لا يقل عراقة عنه يغرف من إرث الدولة العثمانية”.
ويرسم إبراهيم قالين مستشار رئيس الوزراء التركي في عام 2012 ملامح السياسة التركية الجديدة، ويعطي المزيد من التفاصيل في هذا الشأن، في مقالة مهمة تحمل عنوانًا أكثر إثارة هو: “تركيا في الشرق الأوسط، بزوغ رؤية جيوسياسية مستقبلية جديدة”. وبدايةً ينظر قالين إلى تركيا نظرة توسعية، استنادًا إلى التاريخ العثماني، ويرى أن تركيا الآن: “بلد حديث أكبر من أن يكون مجرد وطن لأمة، وأصغر من أن يكون إمبراطورية”!! كما يؤكد قالين على التوجه العثماني الجديد لتركيا، وما يلعبه توظيف التاريخ في هذا الشأن: “أن تركيا لا تستطيع إدارة ظهرها للتاريخ أو الجغرافيا، وسواء كان ذلك نعمة أو نقمة عليها، فستظل تركيا في وسط الدوامات العالمية”. ويشير كذلك إلى حقيقة أن تركيا قد بدأت سياستها الإمبراطورية في هذا الشأن: “لقد بدأت تركيا لتوها في أن تسلك سلوك وريث الإمبراطورية الواعي بقدره الذي ما زالت قدرته على التخيل تحوم فوق كل من الأتراك والعرب والفرس والأكراد والبوسنيين والمقدونيين وغيرهم في محيطها الواسع”. هكذا تتحدد ملامح السياسة الخارجية التركية الجديدة، سياسة “العثمانية الجديدة”، وإعادة إحياء الزمن العثماني من جديد.
لكن هذه العودة “العثمانية” إلى العالم العربي كان لا بُد التمهيد لها على عدة محاور، مثل التمجيد والقداسة للتاريخ العثماني، كمقدمة للتأسيس لقوة ناعمة قادرة على اختراق اللاوعي الجماعي للعرب، ومن ثم إيجاد موطئ قدم لها في المنطقة، على نهج الإستراتيجية الإيرانية، والتي نجحت في بعض العواصم العربية. الأمر الآخر هو دعم تنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة من أجل الوصول إلى السلطة في البلدان العربية، ومن ثم تأسيس كيانات تابعة أيديولوجيًا للإخوان وسياسيًا لأنقرة.
من هنا تبدأ سلسلة متصلة من الكتابات التي تمجد التاريخ العثماني، وتضع هالات القداسة على رؤوس رموزه. والأمر المثير هذه المرة أن تصدر هذه الكتابات باللغة العربية، وبأيدي العديد من الكتاب العرب ليسهل تمرير الأمر إلى الرأي العام العربي. ومن الأمثلة في هذا الشأن؛ يصدر العراقي عابد توفيق الهاشمي كتابًا عن التاريخ العثماني، يحمل عنوانًا مثيرًا هو: “الخلافة العثمانية، دولة القدر”. والغريب في هذا الشأن أن الهاشمي ليس من المتخصصين في التاريخ، وبالقطع ليس متخصصًا في التاريخ العثماني. كما أنه يضع عنوانًا دينيًا مثيرًا لكتابه، فبدلاً من أن يعنوِّن كتابه “الدولة العثمانية” يضع عنوانًا دينيًا “الخلافة العثمانية”، وبذلك يضع هالة “الخليفة” على رأس السلاطين العثمانيين. والأكثر من ذلك أنه يرى فيها “دولة القدر”. لكن المثير هنا ليس طبيعة المعالجة التي يقدمها الهاشمي، بخلط التاريخ بالأسطورة، لكنه في مقدمة كتابه يصنع أسطورة جديدة هي أسطورة معاصرة بشكل أقرب ما يكون إلى أن الخليفة المنتظر موجود! ففي مقدمة الكتاب يهدي الهاشمي كتابه إلى الرئيس التركي أردوغان الذي يرى فيه: “أجرأ رئيس دولة مسلمة، غيور”، بل ويرى فيه وفي تركيا: “الامتداد الروحي للخلافة العثمانية”! وعندما نبحث في سيرة الهاشمي جيدًا، ندرك السبب وراء مثل هذه الكتابات؛ إذ يعتبر الهاشمي أحد أهم رموز تيار الإسلام السياسي في العراق.
الأمر الآخر ضمن ملامح السياسة الخارجية التركية الجديدة المعروفة بالعثمانية الجديدة هو تصدير النموذج التركي عبر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ليصبح هو النموذج الملهم لحركات الإسلام السياسي في العالم العربي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وهذا ما يصرح به الباحث التركي البر يلماظ دادا: “هل يمكن أن تكون تجربة تركيا الفريدة من نوعها في التحول الديمقراطي منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، نموذجًا يحتذى به لدول الشرق الأوسط، لا سيما للإخوان المسلمين والأطراف السياسية الفاعلة الأخرى في المنطقة؟”. هكذا يتحدد دور الأذرع الجديدة لسياسة عثمنة المنطقة العربية.
ويؤكد الباحث التركي كمال كيرشجي حدوث التواصل بين تركيا ورموز تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، لا سيما رموز حركة الإخوان المسلمين، واستلهام هؤلاء للنموذج التركي: “في الآونة الأخيرة أظهرت شخصيات بارزة كزعيم المعارضة التونسية راشد الغنوشي، وطارق رمضان، حفيد حسن البنا زعيم جماعة الإخوان المسلمين، أهمية تركيا كنموذج، أو مثال للتحول في العالم العربي”. كما يشير البعض الآخر إلى التصريح الذي أدلى به القيادي الإخواني آنذاك عبد المنعم أبو الفتوح في أعقاب 25 يناير 2011: “أن الإخوان المسلمين في مصر سيشكلون حزبًا على غرار حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا”، وهو ما تم بالفعل آنذاك.
ومن فلسطين نجد نموذج الباحث بشير نافع الذي يشيد بفترة التاريخ العثماني: “لا يوجد شعبان في الشرق الأوسط يتداخل تاريخهما معًا مثل الشعبين العربي والتركي، فقد عاشا كلاهما في كنف الدولة العثمانية لقرون عديدة، واصطبغا بالثقافة العثمانية والحياة العثمانية المتدينة التي أثرت في كل الشعوب الإسلامية داخل الإمبراطورية العثمانية”. ولا يكتفي بشير نافع بالإشادة بالتاريخ العثماني، وتوظيفه في دعم العلاقات التركية- العربية حاليًا، بل يشيد بتجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، بل يشيد بتجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ويجعلها نبراسًا لكل الشعوب العربية: “لقد انبهر العرب مثلما انبهر كثيرون في العالم، بنجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية”.
هكذا عملت السياسة العثمانية الجديدة على الترويج لسياسة أردوغان، التي تنظر إلى العالم العربي على أنه مجرد الحديقة الخلفية لها، من خلال تمجيد تاريخ الدولة العثمانية، وتصدير النموذج التركي، لا سيما نموذج حزب العدالة والتنمية الحاكم، من خلال أذرعها في المنطقة وهم تيار الإسلام السياسي.
هندست إلى عنوان عريض يقضي بالتوجه نحو الحديقة الخلفية: الشرق الأوسط.
- جمال واكيم: أوراسيا والغرب، والهيمنة على الشرق الأوسط، بيروت، 2016.
- إبراهيم قالين: تركيا في الشرق الأوسط، بزوغ رؤية جيوسياسية مستقبلية جديدة، مجلة رؤية تركية، أستانبول، ربيع 2012.
- عابد توفيق الهاشمي: الخلافة العثمانية، دولة القدر، أبو ظبي، 2012.
- البر دادا: الانتفاضات العربية ومناقشة النموذج التركي، مجلة رؤية تركية، أستانبول، صيف 2012.
- كمال كيرشجي: تأثير تركيا الواضح وتحول منطقة الشرق الأوسط، مجلة رؤية تركية، أستانبول، ربيع 2012.
- بشير نافع: العرب وتركيا الحديثة، قرن المفاهيم المتغيرة، مجلة رؤية تركية، أستانبول، ربيع 2012.
تطويع الدين لفرض
الاستراتيجية التوسعية للعثمانيين
بعد الكشف عن معالم المشروع “الإخواني-العثماني”، وتفكيك الاستراتيجية العثمانية في المنطقة العربية، أصبح لدينا معطى مهم من أجل تحديد أدوات الصد والمواجهة. على اعتبار أن الجهل باستراتيجية الآخر لا يؤهلك لبسط استراتيجية المواجهة. وهنا نجد أحد أكبر المنظرين البريطانيين وهو بازل ليدل هارت يؤكد على أن أولى مقدمات الرسم الاستراتيجي يقتضي أن تضع نفسك مكان الخصم وتحاول أن تطرح السؤال “لو كنت مكان الخصم، كيف كنت سأفكر؟”.
لجأ العثمانيون إلى المعطى الديني بحثًا عن الشرعية التي يفتقدونها.
وإذا كان العثمانيون قد لجؤوا إلى المعطى الديني من أجل ترسيخ شرعية الحكم، وعملوا على احتلال الحجاز لذات الغرض، بل وتم اللجوء إلى الطريقة البكتاشية الصوفية في أساليب الضبط والربط العسكرية في علاقة السلطة بأداة بطشها ممثلة في جيوش الانكشارية، إلا أنه لم يعرف عنهم ذلك الالتزام الصارم بالنص الديني، وهو ما يفسر عدم أداء سلاطين الدولة العثمانية لشعيرة الحج رغم توفر شرطي الكفاءة والقدرة، بل وكان الحرمين الشريفين يخضع عمليا لاحتلال الأتراك العثمانيين.
إن الأحداث المتسارعة التي يشهدها القرن 21م، تنذر بتغير كبير في موازين القوى وفي الرسم الجغرافي للدول، بل وتهدد حتى مخرجات معاهدة ويستفاليا التي وضعت الأسس الأولى للدولة الوطنية والحدود الترابية بعد ثلاثون سنة من الحروب الدينية دفعت أوروبا المسيحية إلى إعادة الاعتبار للدولة كفاعل وحيد في العلاقات الدولية وإلى الحدود كمجال ضابط للممارسة السيادية للدول.
وفي الوقت الذي تحترم فيه الدول المظاهر السيادية لبعضها البعض، وترفض التدخل في شؤونها الداخلية باعتبار ذلك من مقومات العلاقات الدولية التي تضبطها لوائح الأمم المتحدة، فإن بعض القوى الإقليمية والدولية لا تزال تؤمن بالمنطق الهوبزي، والذي يُسقط العلاقات بين الدول على العلاقات بين الأفراد، وذلك حين أشار هوبز إلى أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
ولعل نجاح إيران في إخضاع أربعة عواصم عربية، وكذا نجاح روسيا في اجتياح جزيرة القرم وغرب أوكرانيا، بالإضافة إلى السياسة التوسعية لإسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية، والنفوذ المتزايد للصين وأمريكا، كلها عوامل دفعت تركيا إلى محاولة التوسع والتمدد على حساب الدول العربية. وقد بدأت بمجالها الحيوي، وخاصة بعض المناطق شمال سوريا والتي تحتلها عمليًا تركيا، وتبرر عملية الاحتلال، تقيّة، بمحاولة إحداث منطقة آمنة على حدودها، مع إمكانية تسهيل عودة اللاجئين السوريين.
ومن أجل تبرير أطروحاتها التوسعية، تلجأ تركيا إلى مجموعة من النصوص الدينية من أجل مساعدتها على استخدام القوة الناعمة كمقدمة لتنزيل مشروع التوسع في المنطقة العربية. والتي ترى فيها فضاءً كلاسيكيًا لإعادة الانتشار والتمدد، رغم عائق اللغة واللسان والذي حَرم الأتراك من دمج مواطني هذه المناطق ضمن ما سمي آنذاك بالإمبراطورية العثمانية.
ويمكن القول بأن مشاريع “إعادة الانتشار” في المنطقة العربية تفرض أمرين أساسيين: الأول مرتبط بتلميع صورة الاحتلال العثماني للمنطقة العربية، والثاني مرتبط باللجوء إلى النص الديني من أجل إضفاء هالة من القداسة على السلالة العثمانية، مستغلين في ذلك التأثير الكبير لنصوص السيرة النبوية على اللا-شعور الجماعي للأمة الإسلامية.
ومن أجل تنزيل الاستراتيجية العثمانية الجديدة في المنطقة، لجأ الأتراك إلى عقد تحالفات براغماتية مع تنظيمات الإسلام السياسي، ومع تنظيمات إرهابية مثل القاعدة وداعش، وذلك بهدف إضعاف الدول العربية وإنهاكها وبالتالي خلق حالة من التوحش يمكن إدارتها من طرف العثمانيين الجدد، بحكم امتلاكهم لأدوات القوة العسكرية.
ولعل الباحث في حقل العلاقات الدولية يقف عند ملاحظة جوهرية في علاقة تركيا بالتنظيمات الدينية المتطرفة. حيث إنه كلما سطع نجم هذه التنظيمات، كلما برز معه اسم تركيا على الساحة العربية والعكس صحيح.
إن استدعاء النص الديني من طرف العثمانيين الجدد، ومحاولة “الربط القسري” بين بعض الأحاديث النبوية الشريفة وحياة بعض سلاطين الدولة العثمانية، يبقى الهدف منه إعادة النفخ في مشاريع “الخلافة العثمانية” من أجل تبرير عمليات التوسع في مجموعة من الدول العربية. وهو “لحن الخطاب” الذي نستشفه من خلال عبارات الرئيس التركي الموجهة لشعوب ليبيا وتونس والجزائر، حيث يتفاعل مع تاريخ هذه الدول بمنطق “التاريخ المشترك” وبأن هذه الدول ما هي إلا استمرار للإمبراطورية العثمانية، وهو ما يجب أن تنتبه إليه الدول العربية من خلال تقوية الجبهة الداخلية، والقطع مع أدوات الربط الإخوانية والتي تطبل للمشاريع التوسعية للعثمانيين الجدد.
- لمزيد من المعلومات راجع كتاب بازل ليدل هارت “الاختيار الصعب بين الدفاع والهجوم”، دار الطليعة، بيروت، كانون الأول 1970م، ص 17
- حول الموضوع راجع مقالة ” “البكتاشية” الرسميَّة للعثمانيين.. أقرَّت “الشِّرك”.. تماهيًا مع حديثي الإسلام”، نشرت على موقع حبر أبيض على الرابط “البكتاشية” الرسميَّة للعثمانيين أقرَّت “الشِّرك” تماهيًا مع حديثي الإسلام – حبر أبيض (whiteink.info)
- لمزيد من التفاصيل راجع كتاب زبغنيو بريجنسكي “رقعة الشطرنج الكبرى”.
- المادة 2 الفقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة
- عمر الرداد “ما هي مآلات المشروع التركي التوسعي في المنطقة؟”. مقالة نشرت على موقع حفريات على الرابط: ما هي مآلات المشروع التركي التوسعي في المنطقة؟ | حفريات (hafryat.com)
حديث الوهم العثماني للسلطان الفاتح:
فتح القسطنطينية
عادة ما تتأثر النفس البشرية لبعض أحاديث الغيبيات فينجذبون لها كأخبار أشراط الساعة، وأحاديث آخر الزمان، وأحاديث الفتن والملاحم، لما فيها من القصص المثيرة، والغرائب والعجائب، التي تشبع بطبيعة فضول الإنسان في معرفة أحوال المستقبل، ومحاولة معرفة ما يخبئه الغيب، حتى أصبحت سوقاً رائجة للإثارة والجذب والتسويق، فامتلأت المصنفات فيها بالغث والرخيص من الروايات المكذوبة، وتكاثرت الكتب المضللة والواهية، التي اختلطت بكثير من الأساطير والخرافات والخيال، وموروثات الأمم الماضية. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في حادثة فتح القسطنطينية في آخر الزمان، التي كثر فيها الخلاف وتضعيف العلماء أغلب مروياتها، إذ وردت فيها نصوص متعددة، منها ما ورد عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر”، ورد في الجامع، وعند ابن ماجة، وابن داوود، وكلها طرق حكم عليها الألباني بالضعف.
المؤرخ اللبناني محمد جميل بيهم انتقد حديث التسويق العثماني في السنة النبوية.
ولكن أصح ما في الباب ما رواه مسلم عن حادثة فتح القسطنطينية، ومن تفاصيلها يتضح أنها مرتبطة بعلامات الساعة الكبرى، وخروج المسيح الدجال، وتدل على أن هذا الفتح لم يحدث بعد بل “يكون بعد قتال الروم في الملحمة الكبرى وانتصار المسلمين عليهم، فعندئذ يتوجون إلى مدينة القسطنطينية فيفتحها الله للمسلمين بدون قتال، وسلاحهم التكبير والتهليل”. في الحديث عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: “سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق. فإذا جاؤوها نزلوا. فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم. قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر. فيسقط أحد جانبيها. قال ثور (أحد رواة الحديث): لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر. ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر. فيسقط جانبها الآخر. ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر. فيفرج لهم. فيدخلوها فيغنموا. فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج. فيتركون كل شيء ويرجعون”. وقال الإمام القرطبيّ: وعلى هذا فالفتح الذي يكون مقارنًا لخروج الدجّال هو الفتح المراد بهذه الأحاديث؛ لأنَّها اليوم بأيدي الروم -دمّرهم اللَّه تعالى- واللَّه بتفاصيل هذه الوقائع أعلم”.
وأما مسألة فتح القسطنطينية وردت أيضا في حديث آخر، فأثارت خلافاً وجدلاً، خصوصا حين نزلها بعضهم على الواقع، واعتبروا أن فتح العثمانيين للقسطنطينية هو المقصود بالحديث، مع أن في ذلك مخالفة واضحة لرواية مسلم. فقد روى عبد الله بن بشر الغنوي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتفتحن القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأمير أميرها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش»، من رواية عبدالله بن بشر، وهو مجهول، لم يوثِّقه إلا ابن حبان، لذلك ذكره الألباني في «السلسلة الضعيفة» وقال: «ضعيفٌ.. وجملة القول: إن الحديث لم يصحّ عندي”. فمن اسقط هذا الحديث على فتح العثمانيين، إذ قال: “وقد فتحت القسطنطينية في سنة سبع وخمسين وثمانمئة، على يد السلطان العثماني التركماني محمد الفاتح (وسمي الفاتح لفتحه القسطنطينية) ، ولم تزل القسطنطينية في أيدي العثمانيين إلى زماننا هذا، وهذا الفتح ليس هو المذكور في الأحاديث التي تقدم ذكرها؛ لأن ذاك إنما يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بزمن يسير؛ ويكون فتحها بالتسبيح، والتهليل، والتكبير لا بكثرة العدد والعدة؛ كما تقدم مصرحا به في غير ما حديث من أحاديث هذا الباب، ويكون فتحها على أيدي العرب لا أيدي التركمان”.
ومن جهة أخرى كيف يكون قائد الجيش محمد الفاتح وهو ماتريدي المعتقد صوفي المشرب، وجيشه كان من الأشاعرة والماتريدية، وفي هذا الحديث تزكية لهم ولمعتقدهم، وأما لي الأحاديث لصالح أولئك القوم وجعلهم في حالة من القدسية والرمزية الدينية غير مقبول إطلاقا، فالأحاديث المتضافِرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحا غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، والقاعدة: حمل المُجْمَل على المُبَيَّن؛ فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصةً وأن الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان جُنْدُهُ من خيار الناس كما جاء في السنَّة” .
بل واتخذ الشيخ المحقق أحمد شاكر موقفا قاسيا، ونفى أن تكون قسطنطينية اليوم، إستانبول، إسلامية، بل تحكمها حكومة علمانية ويقول:” فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله عز وجل، وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا فقد يكون تمهيدا لذلك الفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية”
وقد فسر محمد جميل بيهم في كتابه ” فلسفة التاريخ العثماني” ذلك الواقع الفعلي لحقيقة فتح الترك لإستانبول بقوله: ” لم يكن الترك قوما تجارًا، ولا أصحاب عناية بنشر التعاليم والتمدن لذلك إذا ما بحثنا من استفادتهم من استانبول فإنه نقتصر على ما كان منها من حيث السياسة والفتح، فقد أمنت القسطنطينية للعثمانيين معسكرًا وسطًا بين القارات الثلاث ساعدهم على الفتح “، وفي ذلك دلالة لاشك فيها ان ذلك الحديث بخيرية قائد الجيش والجيش ولا يمكن الارتكاز عليه هنا ولا ينطبق على العثمانيين لا من قريب ولا بعيد.
- عبد الله الرشيد: “هل تصح أحاديث فتح القسطنطينية.. وهل تنطبق على العثمانيين؟” (جريدة عكاظ، عدد يوم الجمعة 03 يونيو 2016م https://www.okaz.com.sa/article/1060300 )
- مجموعة من الباحثين: الموسوعة العقدية، ج 4 (موقع الدرر السنية على الإنترنت net)
- محمد جميل بيهم: فلسفة التاريخ العثماني( عمّان : الهلية للنشر والتوزيع، 2018م)
- محمد بن علي بن آدم الأثيوبي : كتاب البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج(الرياض : دار ابن الجوزي، ج 44، 1426-1436ه)