فخري باشا:
شخصية دموية حاولت مسح الهوية العربية للحرم النبوي
إن دراسة تاريخ الأتراك العثمانيين في منطقتنا العربية يجب أن تخضع لمنهجية دقيقة يتقاطع من خلالها منطق السرد مع مسلك التحليل لنخرج بخلاصات علمية في قراءتنا لتاريخ المنطقة وفق منظور علمي حرص على تسطيره القائمون على الخط التحريري لموقع “حبر أبيض” في تجاوز للسرد الكلاسيكي الجاف الذي يرنو إلى إعادة اجترار الأحداث دونما سعي إلى تحليلها وتفكيكها ومحاولة إسقاطها على البيئة الاستراتيجية الحالية.
في هذا السياق، ورغم أن بدايات القرن العشرين عرفت تراجع النفوذ العثماني في العالم واستقلال أجزاء واسعة عن الدولة العثمانية، إلا أن قلب الجزيرة العربية، وخصوصا المدينة المنورة، ظلت تحت استعمار السلطنة العثمانية التي اعتبرتها آخر أوراق تثبيت شرعيتها في ظل انفصال بقية الجزيرة العربية عن حكم الأتراك ورجوعه إلى حاضنته العربية ممثلةً بالمملكة العربية السعودية وقيادة المؤسس الملك عبدالعزيز.
ولعل الشخصية المركزية التي ساهمت في تنزيل الاستراتيجية العنصرية للساسة الأتراك في الحرم النبوي هي شخصية فخري باشا، وقد قطعت مجموعة من الشهادات بأن تاريخه الدموي في المنطقة وإجرامه وإرهابه لا يقل دموية عن التاريخ الأسود للسفاحين الثلاثة داخل تركيا وخارجها.
من هذا المنطلق، سنحاول تجاوز أسلوب سرد الوقائع والتعويض عن ذلك بمحاولة
تحليلها وفهم سياقاتها وخلفياتها لنخلص إلى الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التالية:
1- ما السر في تمسك العثمانيين باحتلال المدينة المنورة، وما الرمزية التي تمثلها المدينة المنورة في نظر الأتراك؟
2- ما خلفيات تهجير فخري باشا لسكان المدينة فيما عرف تاريخيٍّا وإعلاميٍّا ب “سفر برلك” أو التهجير القسري؟
3- كيف حاول الأتراك تغيير الهوية الثقافية والحضارية للمدينة المنورة؟
في هذا الإطار، ظل سلاطين آل عثمان ينظرون إلى بلاد الحرمين كمركز ثقل لخلافتهم المزعومة بالنظر إلى الرمزية الدينية القوية لمكة والمدينة حيث ظل الحفاظ عليهما مؤشرًا على استمرار شرعية مؤسسة “الخلافة” في بعدها السياسي والديني. هذا المعطى الاستراتيجي جعل الأتراك يستميتون في محاولة الحفاظ على الحرمين أو على الأقل أحدهما وقمع الأصوات المطالبة بالاستقلال تحت مبررات “الخروج عن الخلافة الإسلامية”، تارة، ومقاومة الاستعمار الإنجليزي تارة أخرى.
فخري باشا قام بإقحام المسجد النبوي في صراعه ضد العرب ليقينه بأنهم لن يجرؤوا على استهداف المقام النبوي، وقام باستغلال اللاشعور الديني لسكان المدينة المنورة في محاولة حشدهم للدفاع عن آخر معاقل الاحتلال العثماني، وهو ما لم يؤثر في نفوس الأهالي الذين عانوا الويلات تحت نير الاستعمار التركي الغاشم.
ويقدم لنا علي حافظ صورة مؤلمة عن دكتاتورية فخري باشا وتجويعه لأهالي المدينة لدفعهم إلى الهجرة فيقول “فقد اتخذوها (المدينة المنورة) قاعدة عسكرية في قلب الجزيرة العربية لحماية ممتلكاتهم وجعلوا قيادتها للقائد العسكري عمر فخري باشا وعززوا قواتهم فيها بجيش وعتاد وملأت الأسلحة المساجد بما فيها المسجد النبوي، كما حجز فخري باشا كل ما يؤكل من تمر وأرز وحنطة وغير ذلك من مستودعات الجيش فلا يعطى لأهل المدينة منه شيء إلا بطريق التهريب من الجنود وبأثمان مرتفعة ويتعرض كل من يعثر عليه بائعا شيئا من ذلك لأشد العقاب هو . والمشتري” (1)
ويمكن القول أن فخري باشا لجأ إلى عملية التهجير القسري بهدف ضرب مجموعة من
العصافير بحجر واحد:
الهدف الأول مرتبط بإكراه توفير كميات كافية من المواد التموينية لجيشه لمقاومة الحصار، والإكراه الثاني مرتبط بتفادي تشكل نواة ثورية داخل المدينة موالية للعرب قد تعجل بنهاية احتلال آل عثمان على المدينة. أما الهدف السياسي الثالث فيكمن في المحاولات الحثيثة التي سعى من خلالها فخري باشا إلى تغيير التركيبة الديمُغرافية للمنطقة لفائدة العرق التركي.
وارتباطًا بالنقطة الأخيرة، يرى الزميل الكاتب محمد الساعد في حديثه لأحد المواقع الإلكترونية “أن هدف الأتراك من فعلتهم الشنيعة (التهجير القسري) في ذلك الوقت، هو كسر شوكة العرب الثائرين وتتريك أعقابهم، واستبدالهم بعد نهاية الحرب بأتراك موالين لهم لا يخشون من انفصالهم أو ثورتهم، على نحو ما يسمى اليوم بالتغيير الديموغرافي”(2). ويستشهد الساعد بالنموذج الليبي حيث ترك الاستعمار العثماني جالية تركية مهمة يتمركز معظمها في مدينة مصراتة الليبية حيث مازال البعض يشهر ولاءه لأنقرة رغم انتمائه إلى دولة وطنية يُفترض أنها ذات سيادة. ونفس مشاعر الولاء نسجلها لدى الأقليات التركمانية في كل من العراق وسوريا ولبنان وحتى في الصين (الإيغور).
ولعل ما يؤكد طموح العثمانيين في تتريك سكان المنطقة ما ذهب إليه ابراهيم بن علي العياشي، أحد أبرز مؤرخي المدينة المنورة، في كتابه “المدينة بين الماضي والحاضر” حين قال: “حتى التعليم ومع قصوره التام حاولت تتريكه، وأذكر أن ضابطا من زملائي في الشرطة كنت أحضره وهو يجري عملية حسابية فيقول بيش كرك بيش = يقرمي بيش، يعني خمسة في خمسة تساوي خمسا وعشرون، إنه عربي مولدا وتربية، ولكن لا يعرف شيئا مما درس سوى باللغة التركية، حتى القواعد العربية من نحو وصرف كانت باللغة التركية” (3)
المراجع:
1- علي حافظ، فصول من تاريخ المدينة المنورة، الطبعة الثالثة 1996 م، ص 45 / 46.
2- راجع حديث الزميل محمد الساعد لموقع “الأندبندنت” عربية على الرابط: اضغط هنا
3- ابراهيم بن علي العياشي: المدينة بين الماضي والحاضر، المكتبة العلمية للشيخ محمد سلطان النمنكاني، المدينة المنورة 1392 هـ 1972م، ص 572.