لم يكتفوا بخيانة المسلمين

العثمانيون عطلوا نصرة

المماليك للأندلس

سقطت الأندلس على يد الإسبان، وآخر ما سقط منها غرناطة، وكان المسلمون في الأندلس يستغيثون سفارات تلو أخرى، قادمة من بلاد الأندلس الرطيب التي أصبحت قرارًا وهلاكاً للمسلمين فيها، والسقوط في هاوية محاكم التفتيش بات واقعًا، ومع ذلك لم يستجب الكثيرون لاستغاثاتهم.

ويدعي البعض أن الدولة العثمانية كانت دولة جهاد إسلامي، وأنها تعمل على رفع راية الله وحماية المسلمين، وأنها دولة فتوحات، لكنها كان تعمل على تحقيق طغيانها وتسلطها وتكوين إمبراطوريتها على جثث وجماجم الشعوب.

غلَّب العثمانيون مصالحهم في المحيط الأوروبي على الاستجابة لسفارات الأندلسيين.

انشغل العثمانيون في حربهم ضد المماليك، وعقدوا صفقات مع الفرنسيين ضد الإسبان للسيطرة على الجزائر، لأسباب تخص السلطنة التركية، وإرسال بعض فرق الاستطلاع إلى بعض المدن فقط. 

كانت نكبة مسلمي الأندلس نتاج مؤامرات داخلية وخارجية، ورغم أن بعض المصادر أوحت بأن ملوك الطوائف وما كان لهم من أسباب ضياعها والحال الذي وصل إليه المسلمون، إلا أن ذلك لا يمنع ولا يُبرء ساحة الدولة التي ادعت أنها حامية لديار المسلمين.

كانت الاستغاثات مؤلمة من أجل طلب العون والمساعدة، وأصبحوا في حالة يرثى لها، خاصة بعد ثورتي البيازين والبشرات، التي أسفرت عن تهجير أعداد كبيرة من المورسكيين إلى خارج الأندلس، والأدهى من ذلك العمل على تنصير من اضطر قهرًا أن يبقى داخل الحدود بموجب قانون تم اصداره سنة 1502 م، وقد كانت المعاناة الحارقة ممتدة بين عامي 1499 م- 1501 م.

تعددت السفارات القادمة والمُلحة إلى دول العالم الإسلامي الكُبرى آنذاك كدولة المماليك والدولة العثمانية من سلاطين غرناطة، ولم يَغفلوا اللجوء إلى المغرب الإسلامي بحكم التقارب وسرعة المدد، وكان ذلك الاتجاه الأول رغم تداخل الأحداث.

اتجه الأندلسيون إلى المغرب الإسلامي بحكم أنه أقرب البلدان إليهم وهو قاعدة انطلاق الفتوحات الإسلامية آنذاك، لكن الأحوال السياسية حالت دون تلبية ذلك؛ لكثرة الصراعات الداخلية والفتن، فالحال يكاد يكون مشتركًا، حيث ذكر مؤرخ أندلسي مجهول قوله: “إن اخواننا المسلمين من أهل عدوة المغرب بعثنا إليهم فلم يأتنا أحد منهم، ولا حرج على نصرتنا وإغاثتنا وعدونا قد بنى علينا وسكن، وهو يزداد قوة ونحن نزداد ضعفًا، والمدد يأتيه من بلاده ونحن لا مدد لنا…”. وهنا يجب التوقف عن الاستغاثة التي لم تجد أصداء لعمق الأحداث في بلاد المغرب، وليس تجاهلاً أو تقصيرًا، فالأحداث تكاد تكون مشتركة رغم اختلاف المصدر.

توالت رسائل الاستغاثة الأندلسية في بلاطات الحكام المسلمين، وجاءت على هيئة سفارات ووفود، يطلبون سرعة العون، لذلك سعى سلطان المماليك جقمق في مصر إلى مخاطبة السلطان العثماني مراد، غير أن مرادًا اعتذر عن تقديم العون لُبعد المسافة، وأن القوات لدية برية وليست بحرية، على رغم قوة الدولة العثمانية آنذاك، غير أن انشغال سلاطينهم بتحقيق مصالحهم كان عائقًا.

لم يهتم العثمانيون بنصرة مسلمي الأندلس وإنقاذهم من براثن الصليبيين، فقد ذكر صاحب نفح الطيب بحسب لسان الدين ابن الخطيب بأنه لم تأتِ نصرة لا من البر ولا من وراء البحار حيث ذكر: “… ويئسوا من ناصر أو مغيث من البر والبحر … وتمكن العدو من أخذ الأسرى، ولم يبق موضع إلا ملكه النصارى”. 

أراد العثمانيون استغلال الموقف تجاه إنقاذ الأندلس، لكسب مشاعر المسلمين، فحين أرسل أهل غرناطة سنة 1477 م سفارة إلى الدولة العثمانية قبل السقوط النهائي بإحدى عشرة سنة للأندلس، في فترة حكم السلطان محمد الثاني والمعروف بالفاتح، وناشدته بأن يتدخل لإنقاذهم، لكنهم وجدوه منشغلاً بعقد تحالفات مع البابا سكست الرابع والبندقية وحكام نابولي والمجر وترانسلفانيا وفرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس، والأدهى من ذلك عقد الفاتح تحالفات مع عدد من الزعماء الإسبان، رغم أنهم عُرفوا بعدائهم الشديد، ولكن كانت مصلحة دولته تقتضي ذلك وللمحافظة على القسطنطينية بعد سيطرته عليها.

"الفاتح" اتجه لروما وتجاهل صرخات مسلمي الأندلس.

لم ييئس أهالي الأندلس في تكرار استغاثتهم بالعثمانيين، فقبل سقوط غرناطة بخمسة أعوام وفي عهد السلطان بايزيد الثاني، تم إرسال سفارة تحمل طابع الرثاء على ما تبقى من دولتهم الإسلامية في الأندلس، وفيها وصف لمعاناة نتج عنها سقوط الإسلام وكل من يحاول التمسك به، ولكن ردة الفعل تتكرر أمام تلك السفارات بصفعات متتالية وردود فعل بائسة من دولة لها أسطولها وجيشها برًّا وبحرًا، وكان موقف بايزيد مشابهًا لموقف والده، ولم يرسل سوى رسائل إلى البابا ليتدخل لدى ملكي قشتالة. 

دور بائس من سلطان يملك قوة وسلطة، فما رُوِّج له من مواقف بطولية للسلطان العثماني وما ورد ذكره في كتابات حاجي خليفة وكتابه “تقويم التواريخ” وهو “أن السلطان كلف كمال رايس بقيادة أسطول لإنقاذ مسلمي الأندلس، وأنه سدد ضربات موجعة للشواطئ الإسبانية سنة 1490 م”، ويدحض هذا الكلام المؤرخ التركي ضيا باشا بالحجة والاستدلال الواقعي إذ كان توثيقه بأن الأسطول العثماني لم يقم بتلك المهاجمة لسببين: أن الأسطول البرتغالي كان في تلك الفترة التاريخية أسطولًا قويًّا يعسكر على مقربة من منطقة جبل طارق، وكل الجهات الجنوبية. كما أن القواعد التي سيمر بها ذلك الأسطول بمحاذاة السواحل المصرية والتونسية، وكانت تلك السواحل على عداء شديد مع الأتراك.

وفشلت السفارات الأندلسية في البلاط العثماني، لذلك اتجهت السفارات إلى مماليك مصر والسلطان قانصوه الغوري، وأوضحوا له حالهم وإكراههم على ترك الدين والارتداد عنه، ولم يتردد الغوري في إرسال وفد للملكين المتسلطين، وبنفس المساومات السابقة ساومهم على إجبار مسيحي مصر في أن يدخلوا في الدين الإسلامي وهم مُكرهين، وكانت ردة فعل الملكين فريديناند وإيزابيلا مختلفة عن الرد على مساومات العثمانيين، حيث أكدا للغوري احترامهما للاتفاقيات المعقودة بينهم وبين مسلمي الأندلس، وتم إرسال وفد إلى مصر يرأسه رئيس كاتدرائية غرناطة، أخبروه بأن المورسكيين في حالة جيدة، ومعاملتهم حسنة، وأن لهم حقوق وواجبات مثلهم مثل الإسبان. وذلك إجراء لم يقم به مع سلاطين آل عثمان، ولم يحسبوا لهم حسابًا، كما فعلوا مع المماليك.

وفي الوقت الذي تبنى فيه قانصوه الغوري المسألة الأندلسية في ظل الصمت العثماني؛ دخل مع العثمانيين في صراعٍ حربي أشغله عن متابعة أحوال الأندلسيين عندما قام سليم الأول بتوجيه ضرباته بالقرب من حدود المماليك، رغم أنه كان الأولى والأجدر به أن يتوجه بجيشه صوب الأندلس، غير أن السياسة العثمانية في أوروبا كانت تسعى خلف تحالفاتها مع بعض الدول، فمكتسباته الأوروبية مقدمة على نصرة الأندلسيين، فلم يسع لإنقاذ الأندلس، بل عطَّل إنقاذ المماليك لهم بإسقاط دولتهم.

1) أحمد بن محمد المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق مريم طويل وآخرون، (دار الكتب العلمية، بيروت، 1971 م). 

2) سحر السيد سالم: علاقة مصر المملوكية بغرناطة قبيل وعقب سقوطها، بحث منشور (المؤتمر العالمي للدراسات الموريسكية الأندلسية حول الذكرى الخمسمئة سنة لسقوط غرناطة، زغوان 1993 م).

3) شوقي عطا الله الجمل: محمد التعايشي وجهاده ضد الإسبان والبرتغال 1051هـ/ 1641 م، بحث منشور، (المجلة التاريخية المصرية، المجلد 23، 1976 م).

4) عبد الجليل التميمي: من مسلمي غرناطة إلى السلطان سليمان القانوني، (المجلة التاريخية المغربية، العدد 3، تونس، 1975 م).

5) محمد بن أحمد ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور، تحقيق محمد مصطفى، (القاهرة، د. ن، د. ت، 1984 م).

6) محمد رزوق: الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16- 17 ، (الناشر
إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1998 م).

7) محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية، تحقيق إحسان حقي، (دار النفائس، بيروت، 1983 م).