في صورةٍ تاريخية سوداء تشهد على جرائمهم
العثمانيون خانوا الإسلام في "الدرعية"
إن المتتبع والقارئ للتاريخ الإسلامي، وعلى اطلاعٍ بأسلوب المواجهات العسكرية التي قادتها الجيوش الإسلامية على حالتها المعتادة فيما حدث تاريخيًّا من مواجهات، إذ حرص المسلمون على تطبيق مجموعة من الضوابط الأخلاقية والقيميِّة التي لم تحد عنها إلا بعض التنظيمات وأصحاب الضَّلال، خصوصًا أولئك الذين أصروا على الفهم المتشدد لنصوص التشريع الإسلامي، وحرَّفوها عن سياقها ولووا أعناق النصوص بما يخدم نهجهم المتشدد وطرحهم التكفيري والدموي.
ومن الآثار العطرة التي تمسّك بها المسلمون في حروبهم، ما جاء في وصية الخليفة الراشد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ليزيد بن أبي سفيان عندما أرسله إلى الشام حيث أوصاه قائلاً: “وإنكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع، فاتركوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلوا كبيرًا هرمًا ولا امرأةً ولا وليدًا، ولا تخربوا عمرانًا ولا تقطعوا شجرةً إلا لنفع، ولا تعقرن بهيمةً إلا لنفع، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغدر ولا تُمثل ولا تجبن ولا تغلل”.
من منطلق أدب الحرب في الإسلام في مواجهة الكفار والمشركين، كيف سيكون الحال إذا كانت حربًا ضد مسلمٍ مدافعٍ عن أرضه ووطنه، ومؤمنًا بعقيدته. هذا ما لم تُعر له الدولة العثمانية وزنًا في حربها ضد الدولة السعودية الأولى، هذه الدولة التركية التي جعلت من الدين والإسلام شعارًا أكثر منه ممارسة حياتية ومنهجًا تسير عليه، ففي الوقت الذي ادعت فيه أنها تُمثل الخلافة الإسلامية وهي بعيدةٌ كل البُعد عنها كانت تتعامل مع المسلمين أنفسهم بأقسى أنواع الظلم والإرهاب والتشفي، وتقوم بما لا يُشابه سوى أفعال البرابرة وأبناء عمومة الترك من المغول، حيث أثبت العثمانيون أنهم لا يعيرون آداب الإسلام أي وزن، خاصةً ما يخص الحروب والتقيد بما أمر به الإسلام فيها أيًّا كانت أسباب الحرب وظروفها، ومع من.
في هذا السياق، جاءت مقدمات إرهاب العثمانيين في الدرعية من خلال هجوم قوات إبراهيم باشا عليها من أربع جهات فيما يشبه استراتيجية “فكي الكماشة” ودك الأسوار بطلقات المدافع وهو ما واجهته جيوش الدرعية بشجاعة واستبسال منقطع النظير، في موقف يصفه المؤرخ السعودي ابن بشر بالقول: “ونهضوا على الروم من كل جانب كأنهم الأسود وقاتلوا قتالا يشيب من هوله المولود، فأظلمت الهجيرة كأنها الليل وصريخ السيوف في الرؤوس كأنه صهيل الخيل”.
ورغم المقاومة الشرسة التي أبدتها جيوش السعوديين، إلا أن طول الحصار الذي استمر قرابة ستة أشهر، انتهى بسقوط عاصمة الدولة السعودية الأولى بعدما قدَّم الإمام عبدالله بن سعود أن يفتدي بنفسه حياة الرعايا السعوديين، وهو ما قبله منه إبراهيم باشا شريطة إرساله إلى مصر لينظر في أمره الوالي العثماني فيها محمد علي.
وارتباطا بما بدأناه عن آداب الحرب؛ فإن ما قامت به القوات العثمانية يُعد جرائم حرب في المفهوم الحديث والمعاصر، التي لا يمكن أن يقوم بها سوى المجرمين، ولا تعترف بها الإنسانية، ولا يمكن أن تصدر عن بشر، فكيف إن صدرت من دولة تدعي أنها تمثل الإسلام والمسلمين.
ومما وصفته كتب التاريخ أن جنود إبراهيم باشا قاموا باستباحة الدرعية في مظهر مُفجع يصفه ابن بشر بالقول: “ثم أمر على العساكر أن يهدموا دورها وقصورها وأن يقطعوا نخيلها وأشجارها ولا يرحموا صغيرها ولا كبيرها…وأشعلوا فيها النيران وأخرجوا جميع من كان فيها من السكان، فتركوها خالية المساكن كأن لم يكن فيها بالقديم ساكن”.
بالمفهوم الحديث والمعاصر يُصنَّف الإرهاب العثماني في الدرعية ضمن جرائم الحرب.
وفي السياق نفسه تم رصد صور لتدمير الدرعية من طرف العثمانيين، فنجد الإنجليزي بريدجز يصف إحدى هذه المشاهد فيقول: “لحقت قوات من المشاة الأتراك بالهاربين إلى داخل حقول المدينة حيث أسروهم وقتلوهم مباشرة، وأخذ الجنود رؤوس المقتولين وآذانهم وحملوها إلى قائدهم لأجل الحصول على الثمن المرصود لها”.
لقد تمت استباحة الدرعية بنحوٍ وحشيٍّ وانتقاميٍّ رغم استسلام إمام الدولة السعودية الأولى مقابل الأمان لأهلها، وهو ما يقطع بأن الهدف لم يكن الانتصار العسكري فقط، وإنما مسح كل أثر للدولة السعودية، هذا الهدف يُضاف إليه رغبة الأتراك في عدم تخصيص أية حامية عسكرية للدرعية وتحويلها إلى أثر مجرد بعد عين، وهو ما يؤكد عليه البريطاني جورج سادلير بالقول: “لقد وصلتني أنباء عن تدمير الدرعية بالكامل، ويبدو لي أن القصد من التدمير لم يكن فقط إنهاء السلطة الوهابية، بل أيضا عدم تخصيص قوات عسكرية لحمايتها، ولذا كان لا بد من هدمها كما فعل”.
البريطاني سادلير نقل قناعاته عن جرائم الأتراك في الدرعية بأنها لم تكن مجرد إسقاط دولة.
إجمالا يمكن القول بأن تدمير الدرعية جسَّد صورة تاريخية سوداء ما زالت تنطق بجرائم العثمانيين في المنطقة العربية، ولا تزال أرضها تسرد حكاية بطولات أئمة الدولة السعودية الذين استرخصوا أنفسهم لحفظ دماء المسلمين، وأسسوا لتطهير الأرض من المستعمر العثماني لتظل مصدر إلهام لمن جاؤوا بعدهم وساروا على نهجهم إلى أن تمكنوا سنة (1932م) من تأسيس دولة قوية على يد المغفور له المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، واستطاعت دولته أن تحجز لها مكانًا في عالم لا يقيم وزنًا واعتبارًا إلا للكبار كالسعوديين.
ومن ثم لم يبق من التاريخ للعثمانيين إلا العار والصفحات السوداء، التي طمسها السعوديون بشجاعتهم وقوتهم ووطنهم، الذين انتصروا على الغُزاة وطهروا أرضهم منهم، على الرغم من الإرهاب العسكري والفكري الذي استخدمته الدولة العثمانية ضدهم، بالآلة العسكرية المتطورة في زمنها والقوات الجرارة التي بعثت بها إلى الجزيرة العربية، والحملة الممنهجة التي حاولت من خلالها تشويه صورة السعوديين البيضاء.
- محمد الواقدي، فتوح الشام (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005م).
- جورج سادلير، رحلة إلى الجزيرة العربية، ترجمة: عيسى أمين (بيروت: المؤسسة العربية، 2000م).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987م).
- عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991م).