شهــادة للتاريخ من داخل قصر السلطـــان

مـذكرات "خير الدين آغا"

جاءت سلسلة الذكريات الخاصة بـ”خير الدين آغا” رئيس الآغوات في قصر السلطان عبد الحميد الثاني، أشبه ما تكون بمذاكرته ومشاهداته الخاصة، إذ لا يتجاوز عدد صفحاتها حوالي خمسين صفحة، تناول فيها صورًا ولقطات من الحياة التي عاشها في خلال رحلته الطويلة مع العبودية حتى بلغ رتبة رئيس الخصيان في القصر السلطاني ومشاهداته داخل القصور السلطانية الأخرى، ولعل هذه من المذكرات من أندر المذكرات التي تتناول ما وراء الجدران العالية في الحرملك.

حقًا، لقد استوقفتني المذكرات كثيرًا بفصولها الثلاثة التي طرح فيها الآغا معاناته ومعاناة المئات من الآغوات والجواري داخل القصر، وأظهر للقارئ صورًا وأشكالاً من تحطيم الروح الإنسانية، وانتهاكًا لحقوق أولئك العبيد داخل قسم الحريم، وضرب أمثلة عديدة لما كان يجري في عالم الحرملك الغامض.

ولا شك أنه عالم مُعتم ومُظلم لأي مؤرخ، فمعظم من تكلم من المؤرخين عن ذلك الجانب لم يستطع الاستفاضة في الحديث عن ذلك العالم المغلق، وهذا سبب لعدم وجود المعلومات الوافية والشافية، فالصرامة والشدة المفروضة في التعامل فيها مع سكان الحرملك كان لهما التأثير الكبير، ومن ناحية أخرى السرية والكتمان وعدم البوح لأي مخلوق عما يجري خلف تلك الأسوار، وإلا سيكون مصيره الجلد والعقاب الشديد الذي قد يؤدي به إلى القتل حتمًا.

وتحدث الآغا خير الدين في مذكراته عن واقع قسم الحريم “الحرملك” خلال الفترة التي عاصرها وعايشها في عهد السلطان عبد العزيز، والسلطان عبد الحميد الثاني، ونقل لنا بعض الأسرار التي لا يمكن لأحد الاطلاع عليها من خارج أسوار القصر ومنها على سبيل المثال، المعاناة الكبيرة التي كان يلاقيها العبيد الجدد عند مخالفتهم برتوكولات القصر في قسم الحريم على وجه الخصوص، التي قد تفضي إلى الموت تحت سياط الجلادين بلا رحمة أو إنسانية، وكيف أنه لم يسمح للآغوات الأحداث الخروج من القصر حتى يبلغوا مكانة مرموقة في  رتب الآغوات، فهم أشبه ما يكونوا بسجناء داخل القصر.

وتطرق الآغا لتجربته الشخصية داخل قسم الحريم “الحرملك” وكيف طلبت منه رئيسة الخدم عند تعريفه بواجباته، أن يكون أصمَ، أبكمَ، أعمى، ويتحتم عليه إذا سمع شيئًا ألَّا يعي ما سمعه بأنه إذا دخل الكلام من أذن يخرج من الأخرى، وأن يكون أبكم عما يسمعه، وأعمى عما يشاهده، وعليه الالتزام بالقواعد الرئيسة المتبعة بكل جدية وصرامة في قسم الحرملك، وأن يُقسم على ذلك قسمًا مُغَلَّظًا على القرآن الكريم.

واستعرض الآغا تقسيم مراتب نساء القصر بدءًا بزوجات السلطان وبناته، فعدّد فئة الخادمات والوصيفات اللواتي يبلغ عددهن كبير جدًّا، وفئة “قلفه” وهن رئيسات الحرم، وفئة الإقبال وهذه الفئة المنتقاة بعناية فائقة وهن اللواتي يجري اختيارهن من الجميلات من نساء القصر، كي تترشح لتكون محبوبة السلطان، ومهمة هؤلاء النساء العمل على تسلية السلطان وساكنات القصر إما بأحاديثهن ومرحهن ودسائسهن. وأما الفئة الأخيرة فهي “كوزده” أي المنظورة من قبل السلطان ودورهن إيجاد أنواع من الرفاهية والراحة للسلطان وإيقاعه في شرك غرامهن، وإذا حصلن على هذا اللقب ينتقلن إلى مصاف الزوجات الشرعيات خاصة بعد أن يرزقن من السلطان بالأولاد.

  ومن أهم مشاهدات الأغا داخل القصر، والتي عبر عنها بأنها من مظاهر التبذير والإسراف المصاحب للحفلات التي تقام في قصر “جيراغان” الشهير على شرف السلطان عبد العزيز، وقد يستمر التجهيز لها أكثر من أسبوع، ويُدعى إليها كثير من المغنيات والعازفات والراقصات من الأرمنيات والروميات، وما كان يحدث في تلك الحفلات والسهرات من الفسق والمجون.

وحكى الآغا في ذكرياته أيضا عن تجربته الشخصية في خدمة “فريحة خانم” المحظية الخاصة بالسلطان عبد العزيز، وقد كان يحبها حبًّا جنونيًّا، إذ أبعد عنها حبيبها الأول الضابط حسن بك عن العاصمة وأرسله إلى اليمن، وما شاهده من الدسائس التي حيكت ضدها من نساء القصر في الحرملك، والأدهى من ذلك كله حفلات الاستحمام التي كان يقيمها السلطان عبد العزيز في قصره، الذي تحضره (كوزده) المنظورة ووصيفاتها واللواتي يزيد عددهن عن العشرين، حيث تعزف العازفات الموسيقى للسلطان أثناء استحمامه ويشاركن الوصيفات بالرقص والاستحمام بصورة أشبه ما تكون بأسطورة ألف ليلة وليلة!