مذكرات عبدالحميد الثاني تفضحه

السلطان "المرتشي" يعشق الجاسوسية ويشرعنها

ما تزال مذكرات السلطان عبدالحميد الثاني تفاجئنا بالكثير من المتناقضات والعجائب التي لا يمكن للعقول السليمة القبول بها أو التسليم بما ورد فيها وتمريرها دون الوقوف عليها وسبر ما فيها من غرائب لمن كان يعد نفسه خليفة المسلمين وظلَّ الله في الأرض، فالمذكرات عكست الصورة الحقيقية للسلطان عبدالحميد الثاني، التي جعلت الكثير من القراء يغضون أبصارهم عما فيها من تناقضات؛ وذلك لوهم القداسة والهالة المصطنعة حول شخصه وتفخيمه عبر العقود الماضية، أو بسبب غشاوة العاطفة الدينية المتضخمة.

البقشيش الحلال

برز بجلاء اضطراب الفكر والمعايير المغلوطة لبعض المفاهيم والقيم، التي كان يتبناها السلطان عبدالحميد الثاني، والتي تخالف الشريعة الإسلامية لما فيها من تأثيرات وخيمة على المجتمع، ألا وهي مسألة “البقشيش” أو الهدايا التي كان يتلقاها الموظفون الحكوميون من الناس إزاء خدمتهم وأداء واجبهم الوظيفي نحوهم، وكلنا ندرك خطورة ذلك الأمر على النفس البشرية وعلى المجتمع والأداء الحكومي، فقد شدد الإسلام في التحذير من مثل ذلك الخلق، وفي الحديث عن النبي صَلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَنِ استعمَلْناه على عمَلٍ فرَزقْناهُ رزقًا، فما أخذَه بعد ذلك فهو غُلولٌ”. ولقد أجمعت الأمة بعلمائها على أن هدايا العمال سُحت، لأنه إنما يُهدَى إلى العامل ليغمض له في بعض ما يجب عليه أداؤه، ويبخس بحق المساكين، ويُهدى إلى القاضي ليَميل إليه في الحُكم، أو لا يُؤمَن من أن تحمله الهدية عليه. وأين السلطان من تلك الأحاديث النبوية الشريفة ومن إجماع الأمة؟ وللأسف وجدناه يحاول تسويغ تلك الغلول (الهدايا) وانتشارها بين موظفي الحكومة العثمانية بأسباب واهية ومقارنتها بما كانت تفعله بعض الحكومات الأوروبية في السابق، والتي عدّها من العادات. 

وهنا تظهر لنا وجهة نظر السلطان عبدالحميد بأن الموظف لا يمكنه أن يعيش على الراتب الذي يحصل عليه من الدولة، لذا يرى أن المبلغ الذي يحصل عليه الموظف من الهدايا من حقه الطبيعي، بل عدَّه الناس أمرًا طَبَعِيًّا، مما جعل من الهدية عرفًا ومؤسسة وطنية. ثم أكد ذلك المُسَوِّغ بأن الدولة فقيرة ومستمد ذلك من فقر الناس، فالدولة لا يمكنها أن تدفع الرواتب بصفة شهرية منتظمة، بل اعتبر ذلك الأمر إنساني بحت يجب تفهمه، فالعيال في البيت جائعون ينتظرون النجدة من الهدايا، وإن أي موظف في أي أمة وضعها كوضع العثمانيين لابد أن يتصرف كما يتصرف موظفونا هنا.

ويقول في مذكراته ما نصه: “والحقيقة أن أصول الرشوة سيئة للغاية. إنها عملية تضر مجتمعنا كثيراً. يمكن أن نصفح عن الهدية “البقشيش” المقدمة إلى صغار الموظفين ممن قلّت رواتبهم وكثر عيالهم، ولكن كبار الموظفين يقبضون أساسًا رواتب ضخمة، فعليهم أن يحيلوا هذه الهدايا إلى خزينة الدولة لا أن يأخذوها” كما أنكر على والي بيروت ومدير الشرطة وقائد المنطقة الساحلية بوصفه لهم بأنهم خونة؛ لأنهم أخذوا ثلاث ليرات تركية كرشوة من ملايين المهاجرين غير الشرعيين ومنحوهم الوثائق الرسمية، وبذا غصبوا ملايين الليرات من خزينة الدولة.

حقيقة يقف الإنسان مصدومًا أمام شرعنة الرشوة بمسمى “البقشيش” في الدولة العثمانية وبرعاية رسمية وسلطانية فاخرة، فالسلطان عبدالحميد الثاني أسهم وأسس للفساد الإداري والحكومي في الدولة وعمّقه في عموم ولاياتها طيلة سنوات حكمه المظلمة وضربت الرشوة بأطنابها في خلالها، والسبب هو تبريراته الواهية غير المقبولة شرعًا ولا عقلاً، وشرّعها للموظف الصغير وأنكرها على الموظف الكبير ليس لحرمتها ومخالفتها للشريعة الإسلامية، بل لأن تلك الهدايا هي ملك لخزينة الدولة، فيا للعجب ممن يدعي أنه خليفة المسلمين الذي لم يقع ظلّه على الأرض بل وقع على الهدايا والرشاوى.

السلطان المهووس بالجاسوسية

شكلت الاستخبارات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني أحد أهم الركائز الأمنية التي استطاع السلطان أن يدير بها شؤون الدولة الداخلية والخارجية واللعب على حبالها في تعاملاته مع الجميع دون استثناء، حتى قيل: “إن تحت كل حجر في الدولة مخبر عثماني” وبهذه العقلية الاستخباراتية والجاسوسية استطاع السلطان البقاء في سدة الحكم ثلاثة عقود، فأراد بذلك بناء جدار ضخم من التجسس والمخابرات على شعبه وضرب بعضهم ببعض حتى تصل إليه النتيجة والمحصلة التي كان يريدها بخبث ودهاء، وبنى بذلك دولة قامت أركانها على الخوف من الكل وعدم الثقة بالكل، وساق -كالمعتاد- الأسباب لفعل ذلك الأمر هو الحفاظ على وحدة الإمبراطورية من الاختراق الخارجي، رغم إدراكه جيدًا أن الدولة مخترقة منذ أيام السلطان القانوني الذي فتح الباب للدول الأوروبية منذ قرون مضت بمنحه فرنسا امتيازات جعلها تتدخل بطرق مختلفة. 

قيل في عهده "إن تحت كل حجر في الدولة مخبر عثماني".

ونرى السلطان عبدالحميد يتحدث عن التجسس فيصفه بقوله: “معلوم أن التجسس أمر معيب، ولكن لا يمكننا الاستغناء عنه، ولا أظن أن في أي بقعة من بقاع الأرض دسائس ومؤامرات مثل التي تحاك في بلادنا”. ومع ذلك يقدح ويذم في رجال المباحث والمخبرين ويصفهم بأنهم أناس سفلة وعديمو الشرف ويردف ذلك بالقول: “وأن ديننا يلعن أهل الزور. إلا أنه لو لم يكن لي هذا الجهاز الكبير من المخابرات، لكان مستحيلاً علي حماية نفسي من الأخطار المحدقة بي من كل جانب. أليس الحكام والأباطرة الآخرون يتصرفون كما أتصرف؟”.
كان عبدالحميد ينظر إلى الجاسوسية والاستخبارات على أنها سيئة ومقيتة ولكنه استخدمها لتحقيق مآربه السياسية ومد نفوذه وسيطرته وتسلطه على البلاد التي خضعت تحت سلطته، وأسهمت سياسته التجسسية تلك في كبت الحريات بصفة عامة والصحفية والإعلامية والثقافية على وجه الخصوص، وعانت من ذلك كثير من الصحف في عهده من الإغلاق ومطاردة أصحابها أو سجنهم ونفيهم خارج الدولة والأمثلة على ذلك كثيرة في المنطقة العربية في بلدان مصر والشام والعراق.

بنى دولة قامت أركانها على خوف الكل وعدم الثقة بالكل.

1) مذكرات السلطان عبد الحميد: مذكراتي السياسية، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1979م).