وفق عقل جمعي عام
عبَّر الفرس وملوكهم عن كرههم الشديد للعرب في تاريخهم القديم
لم تكن العلاقات بين الفرس والعرب جيدة في معظم الأوقات، على مر التاريخ، وحتى البعثة النبوية؛ إذ اتسمت العلاقات بالتوتر الشديد في أغلب الأحيان نتيجة رغبة الفرس في التسلط على العرب، يقابله رفض العرب بما لديهم من عزة وعدم الخنوع، كما أن العربي يرى أن كرامته في سيفه.
اتسمت نظرة الفرس، وعلى رأسهم الملوك الأكاسرة بالتعالي والزهو بالنفس، والنظر باحتقار إلى غيرهم. ويبرر الفرس هذا التعالي بانتسابهم إلى الجنس الآري، ويقال إن اسم إيران مشتق من كلمة “آري“، ولقد لاحظ المؤرخون هذه الظاهرة وأشاروا إلى افتخار ملوك الفرس بهذا النسب. ويشير هؤلاء –بوجه خاص– إلى نقش الملك دارا في إصطخر، حيث يقول الملك: “أنا دارا العظيم– ملك الملوك– ملك الأراضي التي تعمرها الشعوب كلها… أنا فارسي ابن فارسي، آري من نسل آري“.
وينظر ملوك الفرس إلى غيرهم من الشعوب على أنهم عبيد للتاج الفارسي. ويلخص هذه النظرة الملك دارا في النقش الذي سبقت الإشارة إليه قائلاً: “هي الأراضي التي أملكها من وراء فارس التي أسيطر عليها، والتي أدت الجزية إليّ، والتي فعلت ما أمرتها به، والتي فيها تطاع شريعتي“. ويذكر النقش العديد من البلاد، لكن ما يهمنا هنا أنه ذكر أيضًا: “بابل وآشور وبلاد العرب ومصر“. هكذا كانت نظرة ملوك فارس إلى الشعوب التي حولهم، أنها دون الشعوب التابعة لهم ، بل هي شعوب خاضعة.
من هنا تكونت لدى الفرس– وبوجه خاص ملوكهم– “صورة نمطية” تجاه العرب. ويعد حديث كسرى أبرويز أمام وفود الأمم والشعوب التي جاءت لزيارة بلاطه، خير أنموذجٍ على ذلك؛ حيث عبر كسرى عن كراهيته الشديدة للعرب، مستعرضًا الصورة النمطية لهم في العقل الجمعي الفارسي، إذ قال: “لم أر للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، ومما يدل على مهانتهم وذلهم وصغر همتهم، محلتهم التي هم بها– يقصد الصحراء– مع الوحوش النافرة والطيور الحائرة. يقتلون أولادهم من الفاقة– الفقر– ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة. قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها. فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الأبل التي تعافها كثير من السباع“. هكذا خرج حديث كسرى معبرًا عن الصورة النمطية المنافية للحقيقة في ذهن الفرس تجاه العرب، وعن تعالي الجنس الفارسي الآري على الجنس العربي السامي.
في الواقع لم يكن خطابه هو النموذج الفريد للصورة النمطية عن العرب في العقل الجمعي الفارسي؛ إذ تعدُّ قصة الملك بهرام الفارسي أنموذجًا آخر في هذا الميدان. إذ رفض كبار رجال البلاط الفارسي تولية بهرام العرش بعد وفاة أبيه يزدجرد، بذرائع كانت جميعها معادية للعرب، ومُحَقِّرَةً من شأنهم، وطاعنةً فيهم، ومعبرة عن وجهة نظر البلاط الفارسي تجاه العرب. وكان بهرام قد تربى في قصر الحيرة مع أبناء العرب وتعلم لغتهم وعاداتهم. فقال رجال البلاط في تبجح شديد أن بهرام لا يستحق عرش كسرى؛ لأنه: “لم يتأدب بأدب العجم وإنما أدبه العرب، وخلقه كخلقهم– أي العرب– لنشأته بين أظهرهم“.
كره الفرس ملكهم بهرام بن يزدجرد؛ لأنه تربى في بلاط الحيرة العربي.
وهناك قصة أخرى، وهي قصة الحارث بن كلدة، تؤكد ما ذكرناه سابقًا عن الصورة النمطية للعرب واحتقارهم من الفرس. وكان الحارث بن كلدة طبيبًا عربيًّا وفد إلى بلاط كسرى ليقوم بعلاج الملك. لكن كسرى نظر إلى ثياب الرجل باحتقار وسأله: “أعربي أنت؟ فرد الرجل عليه مزهوًا بقوله: نعم من صميمها وبحبوحة دارها، فتعجب كسرى قائلاً: وما تصنع العرب بطبيب مع جهلها وضعف عقولها وسوء أغذيتها“.
هكذا توضح النماذج السابقة طبيعة الصورة النمطية السيئة التي رسمها الفرس للعرب: أنهم جهلة، لا دين لهم ولا حضارة، هم سكان الصحراء الساميون في مقابل سكان المدن، الفرس الآريين. ولم يستفق الأكاسرة من أوهامهم إلا مع الفتوحات العربية الإسلامية التي أسقطت عرش كسرى ونقلت بلاد فارس نقلة حضارية كبرى.
- حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).
- خالد الدوري، المقاومة العربية للنفوذ الساساني في الحيرة من 226م إلى نهاية موقعة ذي قار، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة تكريت (2003).
- رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
- عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
- غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).
- محمد جاد وآخرون، أيام العرب في الجاهلية (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1942).
- هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).