بشهادة مؤرخ عثماني: تفننوا في التمثيل بالقتلى
المذبحة العثمانية ضد الكُرد:
بدليس الكبرى
المؤرخ العثماني أوليا جلبي المولود (1611) في إسطنبول، يعدُّ رحّالةً مستكشفًا عثمانيًّا سافر مستقلًا في مهمات مع الجيوش والبعثات العثمانية على مدار أربعين عامًا، ابتدأها عام (1630) من مسقط رأسه، حيث دوّن مشاهداته في رحلاته في كتابه المعروف “سياحت نامه” كتاب الرحلات بالعربية. وقد وصف جلبي واحدة من أكثر المذابح وحشيةً في التاريخ الإنساني، وهي مذبحة “بدليس” التي ارتكبت في حق الشعب الكردي.
تعمد الترك تشويه الأمة الكردية وإلصاق تهم الهمجية والتخلف بها، إذ وصفوها بأنها أمة أقل شأنا من العرق التركي الذي يعتبرونه الأعلى مكانة من غيره من الأمم. لذلك وصف أوليا جلبي الكرد بالأمة الكافرة في كثير من روايته عنهم بالرغم من أنه زار بلادهم وعاش في نواحيها وأعجب بها وبما فيها من تنوع وتحضر.
ولعل من حسن الحظ التاريخي أن يكون الرحالة أوليا جلبي شاهد عيان على الجريمة المروعة التي ارتكبها السلطان مراد الرابع، انطلاقًا من غيرته وحقده على سكان مدينة بدليس الكردية، وهي مدينة تقع في الجهة الشرقية من حدود الدولة العثمانية، حيث بقيت بدليس متسامحة طوال تاريخها، ومن ذلك سماح الكرد للأرمن بمجاورتهم في المدينة، وبناء عدد من الأديرة، بل تحولت بدليس خلال القرن الخامس عشر مركزًا لإنتاج المخطوطات الأرمنية.
سجل جلبي وقائع المجزرة في كتابه “سياحتنامة” سنة (1655)، ووصف تلك الجريمة التي تكشف طغيان السلاطين العثمانيين وإدارتهم للبلاد الإسلامية التي صادف حظها العاثر أن تقع تحت احتلال الترك، فمارسوا مع شعوبها أنواع الانحراف الأخلاقي والعنف السياسي والأمني، انطلاقًا من غرورهم وعنجهيتهم.
دوَّن جلبي مشاهداته وقصصه عبر رحلاته العثمانية، موثقًا الأشياء التي شاهدها بينما يتنقل من منطقة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى ومن قلعة إلى أخرى، إذ شخّص وسجل جميع المعلومات الدقيقة حول تراث وفلكلور الشعب الكردي وحضارته إبان الحكم العثماني، ليكتشف البعض المكتنز من التراث الكردي، تراثهم المفقود، ليكون الشاهد المنحاز للعثمانيين، متوصلاً إلى معلومات كافية لم يؤرخها أي تركي آخر أو أي رحالة عثماني في تلك الحقبة الزمنية، كما أورد ذلك الباحث فتح الله حسيني.
تؤكد الروايات أن مجزرة بدليس بدأت حين كان السلطان مراد الرابع عائدًا باتجاه ديار بكر الكردية ليتلقى التهاني بعد احتلاله مدينة بغداد سنة (1639)، لكن أمير بدليس عبدال خان منعته الظروف من التوجه للتهنئة، فغضب السلطان وأمر قائده العسكري أحمد باشا قائلاً له: “يجب أن تأخذ بثأري وتنتقم من يوسف زعيم عشيرة المزورية ومن عبدال خان البدليسي”. ليقتل فورًا نحو 700 كردي ويجلب القائد يوسف أسيرًا بعدما عذبوه ومن ثم أعدموه. ثم انتقل الجيش العثماني إلى جبل سنجار ليقتل ما يزيد عن 10 آلاف شخص، ولم يكتف العثمانيون بذلك بل استولوا على معظم أرزاق الكرد واعتبروها غنائم، بينما أكد العثمانيون طغيانهم بتلك الجريمة مؤسسين بحرًا من العداء مع الكرد، وتحولت ديار بكر إلى جبال من الجماجم والآذان المقطوعة، وهي سياسة وعادة تركية يقومون بها ضد كل من يحاربونهم تنكيلًا بهم وترويعًا لغيرهم.
تفاصيل مروعة راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف كردي.
ارتكبت المجزرة بعد تعذر تهنئة الحاكم الكردي للسلطان العثماني بعد احتلاله بغداد سنة (1639).
وبحسب الباحث حسين جمو الذي قال: “يمكن العثور على الروح العنجهية في رسائل أحمد باشا للأمير الكردي، التي جمعها وعلق عليها الباحث بوار نور الدين في كتاب خصّه عن هذه الواقعة بالتحديد. ومن بين الجمل التي هدد بها الباشا العثماني: “عهدًا أن أقوم بمعاقبة عبدال خان وتأديبه إلى أن يصبح هو وأولاده عبيدًا للعثمانيين”.
ويصف الباحث رشيد فندي في ترجمته لكتاب رحلة أوليا جلبي في كردستان، إن العلاقة بين مراد الرابع وبين الأكراد في مدينة بدليس وقائدها عبدال خان بالغيرة التي ملأت قلب السلطان واستولت عليه نار الحقد الأسود، على الرغم من أن عبدال خان دفع ولديه وهما يحملان القرآن بين أيديهم لعل السلطان يتراجع عن خطته للإبادة التي أضمرها في نفسه. وقعت المعركة وأوليا جلبي يشاهد عجائبها وأهوالها، فكتب: “أما جنودنا فمن كثرة ما قطعوا من الرقاب بلغ حدًّا لن تسعها سلالهم، فقطعوا الأنوف والآذان والرؤوس، وكان كل منهم يطمح في جلب 20 أذناً و10 أنوف، فأحدهم كان معه 40 أذناً و20 أنفًا. إن الشخص الذي يأتي بسلال أكثر مليئة برؤوس مقطوعة سيحصل على هدايا أكبر بينما بيعت أملاك الأمير الكردي في مزاد علني ونهب الجنود ما استطاعوا إليه سبيلاً”.
تعمد الترك تشويه الأمة الكردية وإلصاق تهم الهمجية والتخلف بها.
- أوليا جلبي، رحلة إلى كوردستان 1065هـ/1655م، ترجمة: رشيد فندي (دهوك: مطبعة خاني، 2008).
- عماد عبد السلام رؤوف، دراسات وثائقية في تاريخ الكرد الحديث وحضارتهم (دمشق: دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2012م).
- محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمة: محمد علي عوني، ط2 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2005).