تطويع الدين لفرض

الاستراتيجية التوسعية للعثمانيين

بعد الكشف عن معالم المشروع “الإخواني-العثماني”، وتفكيك الاستراتيجية العثمانية في المنطقة العربية، أصبح لدينا معطى مهم من أجل تحديد أدوات الصد والمواجهة. على اعتبار أن الجهل باستراتيجية الآخر لا يؤهلك لبسط استراتيجية المواجهة. وهنا نجد أحد أكبر المنظرين البريطانيين وهو بازل ليدل هارت يؤكد على أن أولى مقدمات الرسم الاستراتيجي يقتضي أن تضع نفسك مكان الخصم وتحاول أن تطرح السؤال “لو كنت مكان الخصم، كيف كنت سأفكر؟”.

لجأ العثمانيون إلى المعطى الديني بحثًا عن الشرعية التي يفتقدونها.

وإذا كان العثمانيون قد لجؤوا إلى المعطى الديني من أجل ترسيخ شرعية الحكم، وعملوا على احتلال الحجاز لذات الغرض، بل وتم اللجوء إلى الطريقة البكتاشية الصوفية في أساليب الضبط والربط العسكرية في علاقة السلطة بأداة بطشها ممثلة في جيوش الانكشارية، إلا أنه لم يعرف عنهم ذلك الالتزام الصارم بالنص الديني، وهو ما يفسر عدم أداء سلاطين الدولة العثمانية لشعيرة الحج رغم توفر شرطي الكفاءة والقدرة، بل وكان الحرمين الشريفين يخضع عمليا لاحتلال الأتراك العثمانيين.

إن الأحداث المتسارعة التي يشهدها القرن 21م، تنذر بتغير كبير في موازين القوى وفي الرسم الجغرافي للدول، بل وتهدد حتى مخرجات معاهدة ويستفاليا التي وضعت الأسس الأولى للدولة الوطنية والحدود الترابية بعد ثلاثون سنة من الحروب الدينية دفعت أوروبا المسيحية إلى إعادة الاعتبار للدولة  كفاعل وحيد في العلاقات الدولية وإلى الحدود كمجال ضابط للممارسة السيادية للدول.

وفي الوقت الذي تحترم فيه الدول المظاهر السيادية لبعضها البعض، وترفض التدخل في شؤونها الداخلية باعتبار ذلك من مقومات العلاقات الدولية التي تضبطها لوائح الأمم المتحدة، فإن بعض القوى الإقليمية والدولية لا تزال تؤمن بالمنطق الهوبزي، والذي يُسقط العلاقات بين الدول على العلاقات بين الأفراد، وذلك حين أشار هوبز إلى أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.

ولعل نجاح إيران في إخضاع أربعة عواصم عربية، وكذا نجاح روسيا في اجتياح جزيرة القرم وغرب أوكرانيا، بالإضافة إلى السياسة التوسعية لإسرائيل على حساب الأراضي الفلسطينية، والنفوذ المتزايد للصين وأمريكا، كلها عوامل دفعت تركيا إلى محاولة التوسع والتمدد على حساب الدول العربية. وقد بدأت بمجالها الحيوي، وخاصة بعض المناطق شمال سوريا والتي تحتلها عمليًا تركيا، وتبرر عملية الاحتلال، تقيّة، بمحاولة إحداث منطقة آمنة على حدودها، مع إمكانية تسهيل عودة اللاجئين السوريين.

ومن أجل تبرير أطروحاتها التوسعية، تلجأ تركيا إلى مجموعة من النصوص الدينية من أجل مساعدتها على استخدام القوة الناعمة كمقدمة لتنزيل مشروع التوسع في المنطقة العربية. والتي ترى فيها فضاءً كلاسيكيًا لإعادة الانتشار والتمدد، رغم عائق اللغة واللسان والذي حَرم الأتراك من دمج مواطني هذه المناطق ضمن ما سمي آنذاك بالإمبراطورية العثمانية.

ويمكن القول بأن مشاريع “إعادة الانتشار” في المنطقة العربية تفرض أمرين أساسيين: الأول مرتبط بتلميع صورة الاحتلال العثماني للمنطقة العربية، والثاني مرتبط باللجوء إلى النص الديني من أجل إضفاء هالة من القداسة على السلالة العثمانية، مستغلين في ذلك التأثير الكبير لنصوص السيرة النبوية على اللا-شعور الجماعي للأمة الإسلامية.

ومن أجل تنزيل الاستراتيجية العثمانية الجديدة في المنطقة، لجأ الأتراك إلى عقد تحالفات براغماتية مع تنظيمات الإسلام السياسي، ومع تنظيمات إرهابية مثل القاعدة وداعش، وذلك بهدف إضعاف الدول العربية وإنهاكها وبالتالي خلق حالة من التوحش يمكن إدارتها من طرف العثمانيين الجدد، بحكم امتلاكهم لأدوات القوة العسكرية.

ولعل الباحث في حقل العلاقات الدولية يقف عند ملاحظة جوهرية في علاقة تركيا بالتنظيمات الدينية المتطرفة. حيث إنه كلما سطع نجم هذه التنظيمات، كلما برز معه اسم تركيا على الساحة العربية والعكس صحيح.

إن استدعاء النص الديني من طرف العثمانيين الجدد، ومحاولة “الربط القسري” بين بعض الأحاديث النبوية الشريفة وحياة بعض سلاطين الدولة العثمانية، يبقى الهدف منه إعادة النفخ في مشاريع “الخلافة العثمانية” من أجل تبرير عمليات التوسع في مجموعة من الدول العربية. وهو “لحن الخطاب” الذي نستشفه من خلال عبارات الرئيس التركي الموجهة لشعوب ليبيا وتونس والجزائر، حيث يتفاعل مع تاريخ هذه الدول بمنطق “التاريخ المشترك” وبأن هذه الدول ما هي إلا استمرار للإمبراطورية العثمانية، وهو ما يجب أن تنتبه إليه الدول العربية من خلال تقوية الجبهة الداخلية، والقطع مع أدوات الربط الإخوانية والتي تطبل للمشاريع التوسعية للعثمانيين الجدد.

  1. لمزيد من المعلومات راجع كتاب بازل ليدل هارت “الاختيار الصعب بين الدفاع والهجوم”، دار الطليعة، بيروت، كانون الأول 1970م، ص 17

 

  1. حول الموضوع راجع مقالة ” “البكتاشية” الرسميَّة للعثمانيين.. أقرَّت “الشِّرك”.. تماهيًا مع حديثي الإسلام”، نشرت على موقع حبر أبيض على الرابط “البكتاشية” الرسميَّة للعثمانيين أقرَّت “الشِّرك” تماهيًا مع حديثي الإسلام – حبر أبيض (whiteink.info)

 

  1. لمزيد من التفاصيل راجع كتاب زبغنيو بريجنسكي “رقعة الشطرنج الكبرى”.

 

  1. المادة 2 الفقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة

 

  1. عمر الرداد “ما هي مآلات المشروع التركي التوسعي في المنطقة؟”. مقالة نشرت على موقع حفريات على الرابط: ما هي مآلات المشروع التركي التوسعي في المنطقة؟ | حفريات (hafryat.com)