بعد أن هدموا وقتلوا وسرقوا وأحرقوا سنة (1818م)
العثمانيون بسقوط الدرعيَّة يحاكون اجتياح المغول لبغداد سنة (1258م)
ما حدث في بغداد إثر الاجتياح المغولي وهدم الخلافة العباسية سنة (1258م)، تكرر حرفيًّا باجتياح العثمانيين للدرعية سنة (1818م)، بالهمجيَّةِ نفسها محاولين استئصال الفكر وبث الرعب والخوف في نفوس الناس، لذلك كان أقسى سقوط للعثمانيين حينها بأنهم حاولوا طمس الفكر والذاكرة العلمية التي نمت في ظلِّ الدولة السعودية بمحاولة تدمير النتاج العلمي للعلماء وسرقة ما يقدرون على حمله وحرق ما يصعب عليهم نقله، فكما أحرق المغول مكتبات بغداد وألقوا بها في دجلة والفرات حتى غدا لون مائهما مختلطًا بالحبر فعل العثمانيون ذلك بعد أن سرقوا وأحرقوا ما وقعت عليه أيديهم من تراثٍ علمي في المكتبات، ودور العلماء، ومحاولة قتله بقتل العلماء، متوهمين أنهم سيقضون على الوطن الذي نما وتقوَّى وقام بقيام الدولة السعودية الأولى بمنهجها وسياستها ونهضتها العلمية.
لم يكن هدف العثمانيين عندما سيّروا حملاتهم لإسقاط الدرعية عام (1818م) سياسيًّا بالدرجة الأولى فحسب، بل أعمق من ذلك وهو استئصال فكر الدولة والوطن من نفوس الناس ومن فكرهم، وطمس هويتهم وتراثهم بكل أنواعه، وتدمير عمرانهم وإرثهم الإنساني الذي بناه وورَّثه إنسان الجزيرة العربية منذ الأزل للإنسان السعودي الناهض، الذي أرهق وجوده وقوته الاحتلال التركي العثماني.
جاءت الحملات العثمانية مختالةً بقوتها، مستعليةً بهجين ثقافتها التركية، تنظر إلى الجزيرة العربية نظرة المتكبر المستعلي، محاوِلةً إحداث تغيير منهجي في شكل الجزيرة العربية بحسب أطماعها الاستعمارية المستنزفة للثقافة العربية، ودفعها لتبني الشكل العثماني للحياة. ولم يكن العثمانيون يقنعون أن جزيرة العرب عصيةً على الغُزاة منذ فجر التاريخ، معتزةً متفاخرةً بثقافتها وإنسانها لآلاف السنين من تاريخ البشرية بعمقها وأصالتها، وهذا ما لم يكن يفهمه أصحاب الدولة المستعمرة، الذين لا يفهمون من الحضارةِ إلا التسلق على ثقافات الآخرين. لم يستوعب العثمانيون أن الجزيرة العربية كونها مهد الإسلام وموطن الرسالة فإنها تُعدُّ عماده ومخزنه العلمي، ومع ذلك رأى الغُزاة العثمانيون أنه لزامًا عليهم تدميرها على من فيها ومنع أي حركة ثقافة نهضوية تظهر منها.
ما لم يفهمه العثمانيون جيدًا أن الدولة السعودية الأولى جاءت بنهضة الإنسان ثقافيًّا وسياسيًّا، وأسست للوطن على رغم طول الفترة التي تاه فيها وسادها الغموض قبل السعوديين لقرون، وكان الترك سببًا رئيسًا فيها منذ توليهم دواوين العباسيين مطلع القرن الثالث الهجري حين منعوا العرب من ديوان الجند والعطاء. لذلك اعتقد العثمانيون أن إرسال جيوشهم ومدافعهم ومرتزقتهم وهدم الدرعية واحتلال الجزيرة وقبل ذلك كله تدمير التراث الديني والفكري زعموا أن كل ذلك سيحقق لهم مزيدًا من المكاسب في استمرار استعمارهم والقضاء على أي ارتداد وطني آخر.
تعمّد العثمانيون القضاء على أي إرث إنساني ثقافي للدرعية.
الدرعية…
الحاضنة الثقافية والإنسانية في الجزيرة العربية
كانت الدرعية مصدر إشعاعٍ وإلهامٍ للجزيرة العربية، وهي تُشكل نواة الدولة السعودية الأولى، فاهتم أئمتها ببناء البشر والحجر علميًّا وثقافيًّا، ويقدر الباحثون عدد المؤلفات والوثائق والمخطوطات التي هُرِّبت بعد سقوط الدرعية إلى المدينة المنورة وآلت إلى مكتبة “المحمودية” ما يزيد على 900 كتاب ومخطوط ووثيقة، وهذا رقم كبير جدًّا قياسًا بتلك الفترة التاريخية، ودليل على ازدهار الحركة العلمية، بل إن ذلك يعد جزءًا يسيرًا من التراث العلمي والسياسي الذي فُقد للأسف بسبب الجريمة العثمانية.
900 كتاب مخطوط ووثيقة، ذلك ما نجا من التدمير العثماني بعد سقوط الدولة السعودية الأولى.
التراث الإنساني
يقول الباحث حمد العنقري عن النشاط العلمي خلال إرهاصات نشأة الدولة السعودية الأولى: “كان من مظاهر نشاط العلماء خلال تلك الفترة، عنايتهم بجمع الكتب ونسخها، وإتاحة الاستفادة منها لطلبة العلم وعامة الناس. وكان للنسّاخ حينذاك دور مهم يماثل دور الناشرين في هذا العصر أو أكثر، لأن نسخ الكتب كان له أعظم الأثر في نشرها، وتعدد نسخها المتداولة بين الناس، ولإدراك عدد من العلماء أهمية مهنة نسخ الكتب في نشر العلم، لكونها مصدر رزق جيد، فقد حرصوا على احتراف هذه المهنة، وتوريثها أبناءهم وتلاميذهم من بعدهم. من أشهر المكتبات الشخصية قبل قيام الدعوة مكتبة الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة، ومكتبة الشيخ عبدالله بن محمد بن ذهلان، ومكتبة الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف التي اطلع عليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومكتبة آل إسماعيل، ومكتبة الشيخ إبراهيم بن سليمان بن علي، وغيرها من المكتبات التي شكّلت مصدرًا مهمًّا لطلبة العلم، بجانب دورها في تنشيط الحركة الثقافية.
ونتيجة لقيام الدولة السعودية بقيادة الإمام محمد بن سعود، وحرصه على نشر الدعوة السلفية، وتوافر القوة العسكرية لهذه الدولة الناشئة والرخاء المادي، زاد الحرص على العلم، وتوافد طلبة العلم على الدرعية للدراسة على علمائها، والاستفادة منهم، وقاموا بنسخ الكتب، وتدوين شروح شيوخهم وتعليقاتهم على حواشيها، وعند مغادرتهم الدرعية ينقل هؤلاء الطلبة كتبهم وما نسخوه إلى بلدانهم.
وقد استمرت حركة النهضة العلمية في نجد، ونسخِ الكتب واقتنائِها، حتى سقوط الدرعية في سنة 1233ه – 1818م على يد إبراهيم باشا. فقد كان من نتيجة ذلك الحدث توقف النشاط العلمي ولو لفترة قصيرة، والقضاء على كثير من الإنجازات العلمية التي حفلت بها الفترة السابقة، كما نتج عن سقوط الدرعية، تدمير خزانات الكتب آنذاك، وانتقال نسخ كثيرة من المخطوطات إلى خارج حدود نجد، أو فقدانها، أو تلفها”.
الحرب العثمانية على البشر والحجر
كانت الحرب العثمانية استئصالية، وما مرت على بلد ولا تجمع سكاني إلا وتعمّدت سرقته وتدميره خاصة التراث البشري ومصادر رزقهم من مزروعات وآبار، ونهب وتدمير جميع الممتلكات، كالمنازل والقصور، والأمتعة، والكتب.
وكان أشد ما وقع من جيش الأتراك العثمانيين من تدمير، ما حصل في الدرعية وضرما وثرمداء وشقراء وبلدان القصيم والخرج وغيرها من المدن، ورغم أن إبراهيم باشا قد عاهد الإمام عبدالله بن سعود بالمحافظة على سلامة الدرعية، إلا أنه لم يف بوعده وهدمها، كما أشار المؤرخ عثمان بن بشر إلى أن العثمانيين سيّروا العديد من الحملات من أجل إكمال القضاء على نجد بعد سقوط الدرعية لفرض سلطتهم وسيطرتهم على المنطقة، وكان منها حملة حسين بك، التي دمرت بلدة حريملاء، وأحرقت الكتب في مكتبة الشيخ عبد العزيز بن سليمان بن عبدالوهاب وصادرت بعضها الآخر.
رحالة ومؤرخون وكتب وثقت الجريمة
وثّق الرحالة البريطاني جورج سادلير، الذي زار الدرعية بعد هدمها، الجرائم المروعة التي ارتكبها الجيش العثماني، حيث ذكر أن قوات إبراهيم باشا نقلت مجموعة هائلة من الكتب إلى المدينة المنورة للاحتفال بالنصر والبهجة به، كما ذكر المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر مصادرة حملة حسين بك بعض مكتبة الشيخ عبدالعزيز بن سليمان بن عبد الوهاب، وإحراق بعضها الآخر.
أما المؤرخ السوري منير العجلاني فأشار إلى أن قوات محمد علي سرقت ما وجدته في بيوت الأمراء والعلماء في نجد، وكذلك يشير بعض المؤرخين إلى أن الشاعر محمد بن عبدالعزيز أبو نهية الذي عاد إلى الدرعية ورأى خرابها وثق تلك الجريمة في نص مهم لا يمكن تجاوزه، وعلى الأرجح أن ذلك النص كان بين عام 1235-1236هـ، قال في بعض أبياته:
أسهرت وكل العالمين هجيع
تغريد ورقٍ بالغصون سجيع
ينوح إلى طال الغناء هز رأسه
من الشوق يطرب كل قلب وليع
حرمني لذيذ النوم تغريد صوته
أجبته بدمعٍ بالخد بديع
سايلتها يالورق بسك من الغناء
عساك تلعي ياحمام فجيع
تبكي على ولفٍ وتلقى سواته
ما انته بسواتي يا حمام وجيع
التراث العمراني الذي دمره المغول الجدد
تميزت الدرعية بنمط عمراني كان سائدًا في العمارة النجدية المحلية، يستلهم الحضارة الإسلامية ويوظفها، وهي التي نشأت على وادي حنيفة وخاصة حي البجيري وحي الطريف، المرتبطين ببعضهما يفصل بينهما وادي حنيفة بعرض 200 متر، وتلك الأشكال والتصميمات والرسومات الشائعة فيها، وعندما دكت مدافع الهمجية التركية أسوار الدرعية وقصور أمرائها ومبانيها ومساجدها ومآذنها حرص التركي على طمس المعالم العمرانية وتسويتها بالأرض، وحرق المزارع وردم الآبار ومصادر المياه، بهدف استئصال إنسان الدرعية وكل ما يربطه بدولته السعودية، وتحويلها إلى خرائب يهجرها سكانها وأهلها، لكن أهداف الترك فشلت سريعًا مع عودة الدولة السعودية الثانية وحملها اللواء من جديد ومن الدرعية إلى الرياض هذه المرة.
هدم العثمانيون قصور الدرعية المميزة بالتصميمات المعمارية الفريدة لإجبار أهلها على عدم الرجوع إليها.
- بيتر هاريغان وآخرون، البجيري قلب الدعوة، مراجعة وصياغة: فهد السماري وناصر الجهيمي (الرياض: الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، 2015).
- جورج سادلير، رحلة إلى الجزيرة العربية، ترجمة: عيسى أمين (بيروت: المؤسسة العربية، 2000م).
- حمد العنقري، مكتبات الدولة السعودية الأولى المخطوطة: دراسة تحليلية لعوامل انتقالها واندثارها بعد سقوط الدرعية (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2009م).
- سعد الحافي، “الشعر شاهد على تدمير العثمانيين للدرعية: الشاعر محمد بن عبدالعزيز أبو نهية”، مجلة مدارات ونقوش، ع.6 (د.ت). رابط موقعها على الإنترنت: https://jbhsc.ae/
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971م).