وقع في غرامها أحمد الأول وحكمت الدولة العثمانية ربع قرن..

الجارية أناستاسيا والسلطان العاشق

كيف يُمكن اعتبار الحب استثناء، وأن وقوع رجل في غرام امرأة حدثًا يستحق أن يقف عنده المؤرخون، كي يكشفوا الكواليس ويدوّنوا الأحداث كأنهم عثروا على كنز ثمين.

لكن في الحقيقة، سيزول العجب إذا كان من وقع في الحب سلطان عثماني، فوجود من يُدرك قيمة الحب بين بني عثمان الذين احترفوا سفك الدماء واستعبدوا الجميع نساءً ورجالاً وأطفالاً، وشجّعوا على الفسق والفجور هو كنز ثمين يستحق كل هذا، وإن كانت قصة الحب رحل بطلها سريعًا، وكأن قصور سلاطين الترك لا تطيق أن تشهد على أي شعور نبيل.

تفاصيل أشهر قصة غرام في الدولة العثمانية، كان بطلها هو السلطان أحمد الأول (1590-1617) ميلادي، وقد اختلف الرجل قليلًا عن أجداده وآبائه، فمن ناحية -كما توضح الروايات التاريخية- كان السلطان أحمد الأول ذا شخصية قيادية؛ لكنه في كل الأحوال ديكتاتور انفرد بصناعة القرار السياسي العثماني، وهذا أدى إلى نوع من الهدوء أثناء حكمه، خاصة بعد أن نجح في فرض عُرف دستوري يقضي بتولي السلطة لولي العهد الأكبر والأرشد، بعد أن تركها سلاطين الترك للأقوى فنتجت عن ذلك مجازر بين الأشقاء، وإن كان أيضًا ما فعله السلطان أحمد الأول لم يدم طويلًا بعد وفاته.

كما اختلف السلطان أحمد الأول عن أجداده في نظرته للحرملك، حيث المكان المخصص لجواري وزوجات سلاطين الترك، فكان أقلهم اهتمامًا به ولا يعني هذا إنه كان لا يكترث بالنساء كما توضح المصادر التاريخية، لكن ما أقلق أحمد الأول هو دور الحرملك الذي استفحل في الدولة العثمانية حتى أصبح هو المقر الفعلي للحكم.

لكن المفارقة وربما متطلبات قصص الحب الأسطورية، أن الرجل الذي كانت لديه تلك الرؤية الصائبة إلى حد ما، هو نفسه وقع في غرام الجارية أناستاسيا المولودة في اليونان، وتحديدًا في جزيرة تينوس من أسرة مسيحية، وكان والدها راهبًا أرثوذكسيًّا، وكانت أناستاسيا منذ الصغر ذات جمال أخّاذ، وهو ما لفت نظر والي البوسنة الذي قام بشرائها من شخص يدعى السيد بيلر وأرسلها بعد ذلك إلى الباب العالي في إسطنبول كنوع من التودد لسلاطين الترك الذين تسرهم تلك الهدايا كثيرًا.

لم تُدرك الفتاة الصغيرة أي شيء داخل قصر “توبكابي” الذي استقرت فيه في البداية، كل شيء حولها باذخ ومخيف، وكل باب يحوي خلفه أسرارًا تصعب معرفتها، في خِضَم ذلك كله يراها لأول مرة شاب صغير هو الأمير أحمد الذي لم يصدق أن هناك جمالاً إلى هذا الحد، وسرعان ما ضمها إلى نسائه وغيّر اسمها لتكون “ماه بيكر” الذي يعني حرفيًا “وجه القمر”.

حتى تلك اللحظة لم تكن وجه القمر سوى جارية أبهرت الأمير، لكن الرجل الذي قلق من تزايد دور الحرملك أصبح يهوى الذهاب إليه، ليراها ويستمع لأحاديثها وقصصها، إذ كان من ضمن أساسيات تربية الجواري تعلم السرد القصصي لتسلية سلاطين الترك، وما هو إلا وقت قصير حتى وقع الأمير أحمد في غرام أناستاسيا، وبات حديث قصور الحكم، ومادةً للتندر بين النساء داخل غرف الحرملك.

المؤرخ البريطاني فيليب مانسيل يصف في كتابه “القسطنطينية – المدينة التي اشتهاها العالم”، بأن السلطان أحمد الأول كان مهووسا بحب جاريته أناستاسيا، رغم الإغراءات المتوافرة والضغط من والدته “هاندان” لهجرها، خاصة أن السلطان كان متزوجًا من ماه فيروز التي قضت نحبها في سن مبكرة ضمن ظروف غامضة.

لم يكترث السلطان العاشق بأي ضغوط، ظل وراء قلبه الذي تعلّق بوجه القمر فباتت قمره وشمسه وقضى في الحرملك أيامًا لا يريد مفارقتها، حتى انتهى الأمر في وقت قصير بإعلان أناستاسيا اعتناق الإسلام ثم زواجها من الأمير أحمد الذي أصبح سلطانا وأصبحت هي السلطانة.

ورغم أن الروايات التاريخية تشير إلى أن السلطان أحمد الأول كان صادقًا في حبه وأنه من سلاطين الترك القلائل الذين كانوا ذوي علاقات حب أصيلة، توضح مصادر تاريخية أخرى أن أناستاسيا التي أصبح اسمها “كوسم” بعد أن تزوجت من السلطان، لم تكن بهذا النقاء، فالمؤرخ التركي يلماز أوزتونا يصف كوسم بأنها كانت امرأة ذكية إلى درجة استثنائية، لكنها أيضًا كانت ماكرة ومراوغة وأستاذة في صنع خطط سياسية ومؤامرات متعددة الوجوه، ومؤثرة ومقعنة في كلامها وقد استرضت الشعب كثيرًا لتحقيق أطماعها.

 

لم يكن الأمر من جانب أنستاسيا حبًّا خالصًا، لكنها تربَّعت على قلب السلطان العثماني أحمد الأول وفقًا لمؤرخين، بسبب ميزتين، الجمال الباهر ورجاحة العقل وهو أمر ندر أن يوجد في سيدة واحدة داخل حرملك قصور آل عثمان، أما المؤرخة الفرنسية مادلين إنجليك بواسون (1684-1770) ميلادي، فوصفت قصة الحب تلك في كتابها المعنون بـ”طرائف أو التاريخ السري للبيت العثماني” أنها علاقة أشبه بعاطفة جمعت بين طفلين نشأ وترعرعا سويًا.

تميزت الفاتنة الجميلة بالدهاء والمراوغة وصنع الخطط السياسية والمكائد.

أنجبت كوسم من السلطان أحمد الأول مراد الرابع الذي تولى العرش العثماني لاحقًا، لكن حتى عام 1617 ميلاي، لم يتعدَّ دور كوسم سلطان في شؤون الحكم سوى المشورة والتدخل بحدود في أمور الدولة، فهي ما تزال في قصر الحكم العثماني حبيبة السلطان وزوجته وأم ولي عهده.

لكن في عام 1617 ميلادي توفى السلطان أحمد الأول في عمر السابعة والعشرين، وبرحيله كانت كوسم سلطان تستعد لدور آخر أقوى تأثيرًا، دور جعلها تتربع على عرش السلطنة العثمانية لمدة ربع قرن استطاعت خلالها أن تُحكم قبضتها على كل شؤون الحكم بنحوٍ غير مسبوق.

فالحبيبة سرعان ما تغير وجهها، ومنذ دخولها قصر الحكم كانت جاهلة بمعالمه، حتى أصبحت الآن السلطانة الوالدة، أهم منصب داخل الدولة العثمانية بحسب بروتوكلات بني عثمان، ولم يكن ينقص كوسم أي مهارة، فبمجرد أن تولى مراد الرابع ابنها الحكم (1623-1640) ميلادي، انطلقت تنسج علاقات قوية مع أهم مؤسسات الدولة العثمانية على رأسها مؤسسة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام، بالإضافة إلى لوبي الأغوات، ومن يعارضها تُحرض السلطان مراد الرابع عليه حتى يعزله من منصبه، وشيئًا فشيئًا عرف الطامعون في المناصب أن الطريق يبدأ من كوسم سلطان وبهذا توفّر تحت يديها أهم قادة الدولة العثمانية الذين دانوا لها بالولاء.

تحكمت في الدولة العثمانية لمدة ربع قرن خلال عصر نجليها وحفيدها.

على الجانب الآخر عملت كوسم سلطان على خلق قاعدة شعبية لها من خلال مؤسسات خيرية أنفقت فيها بعض أموالها، وفيما يتعلق بأموال كوسم سلطان يشير مؤرخون إلى أنها جمعت ثروة فاقت باشاوات الدولة العثمانية واستولت على الكثير من الأراضي، وحين تُوفِّيت آلت كل تلك الأموال إلى خزينة الدولة العثمانية.

واستمرت الأمور هكذا حتى توفى مراد الرابع الذي كانت كوسم سلطان نائبته الرسمية، وأكملت مسيرتها في عهد ابنها الثاني إبراهيم الأول (1640-1648) ميلادي أيضًا.

لكن الأمور تغيرت قليلًا بتولي حفيدها محمد الرابع الحكم (1648-1687) ميلادي، ففي الوقت الذي كانت فيه كوسم سلطان ما تزال مُتحكمة في كل شيء في الدولة العثمانية من تعيين الولاة إلى الصدر الأعظم، وأحيانًا إرسال حملات عسكرية، كانت هناك سلطانة أم جديدة هي خديجة تارخان والدة السلطان محمد الرابع.

وللدلالة على شخصية كوسم سلطان العشيقة الرقيقة التي أصبحت الحاكمة المنفردة بكل شيء فقد قررت كوسم سلطان اغتيال حفيدها محمد الرابع لأن والدته خديجة تارخان لا تُكِنّ ودًّا لها، عكس والدة حفيدها الآخر سليمان الذي أرادت له أن يتولى الحكم بعد قتل محمد الرابع.

تلك الجرائم البشعة من حفيدة لحفيدها لم تكن بالأمر الغريب على قصور بني عثمان التي شهدت مجازر الأشقاء ضد الأشقاء والآباء ضد الأبناء، فمن أجل العرش تُزهق أي روح.

عرفت خديجة تارخان والدة السلطان محمد الرابع بما يدور في عقل كوسم، فاستبقت هي الأمر واستغلت نفوذها لإقناع رئيس أغوات الحرملك باغتيال كوسم سلطان وهو ما حدث فعلا في 4 سبتمبر 1651 ميلادي حين دخل العبيد جناح كوسم سلطان وأعدموها خنقًا لتلقى حتفها وهي في سن 62 وتدفن بجانب قبر زوجها السلطان أحمد الأول في منطقة تدعى “سلطان أحمد”.

دبّرت خديجة تارخان مؤامرة اغتيال أناستاسيا بسبب الصراع على الحكم.

  1. عبد العزيز محمد الشناوي “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها”، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1980م.

 

  1. يلماز أوزتونا “تاريخ الدولة العثمانية”، مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا 1408ه/1988م.

 

  1. فيليب مانسيل “القسطنطينية – المدينة التي اشتهاها العالم”، ترجمة د. مصطفى محمد قاسم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2015م.

 

  1. مادام ديكوميز (مادلين أنجليك بواسون) “طرائف أو التاريخ السري للبيت العثماني” (طبعة 1724م)، ، فرنسا، يوليو 2020م.