"من أسرار القصور العثمانية"

لطالما شاهدنا قصور السلاطين العثمانيين في عاصمتهم إسطنبول شاخصة أمام الأعين تحكي لنا قصة التاريخ العثماني الممزوج بصور الأُبَّهة والفخامة، إذ كانت تحاول أن تجاري العواصم الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، باعتبارها عاصمة لإمبراطورية كبرى آنذاك.

وخُلِّفت تلك القصور لتصبح في الوقت الراهن أحد أبرز معالم الجذب السياحي، ومصدرًا من مصادر الدخل للدولة التركية الحالية، فالسياح القادمون من أصقاع المعمورة عندما يأتون إلى العاصمة التاريخية تشدهم مظاهر تلك القصور، حتى تصيبهم بحالة من الانبهار عن حجم أشكال وصور الترف المبالغ فيه، الذي عاشه بعض السلاطين ومن لَفَّ لَفَّهم بعيدًا كل البُعْدِ عن واقع المجتمعات السكانية التي كانت تخضع للإمبراطورية، مما يدلل على وجود حالة عظيمة من الانفصام التام بين واقع الطبقة الحاكمة وبين الناس.

ولعل من أشهر تلك القصور “طولمة باغجة”، الذي أمر ببنائه السلطان عبد المجيد (1839ـ-1861) ميلادي، وانتهي منه سنة 1856ميلادي. واتخذه سكنًا له ولحاشيته ومقرًّا رسميًّا له لاستقبال ضيوف الحكومة الأجانب.

واعتمد في بناء هذا القصر على الطراز الهندسي الأوروبي الغربي، فخرج على هيئة تحفة معمارية في منتصف القرن التاسع عشر، وهي -في الحقيقة- تعكس حالة السلطان المتأثرة المتدثرة بالفكر والثقافة الأوروبية، إضافة إلى الميل إلى عوالم الترف الدنيوي.

تضمن القصر عدة مبان منها؛ المبنى الرئيس، وبرج الساعة، وقصر الحرملك وقصر ولي العهد، وقصر المابين، والمسرح الخاص. وتزين القصر بعدد من الحدائق الغَنَّاء.

ووصلت كلفة بناء القصر إلى الملايين من الليرات الذهبية العثمانية. أرهقت ميزانية الدولة وجعلتها تحت ضغط مديونية كبيرة.

ونعود للحديث هنا عن الحرملك، في ذلك القصر فهو مقر إقامة نساء السلطان من أزواجه وبناته، وجواريه اللواتي يُجلبن صغيرات السن بواسطة تجار الرقيق، أو ما يُهدَين إلى السلطان، وغالبا ما كان يراعى في اختيار جواري الحرملك الجمال والحُسن ودقة التكوين والخلقة، بغض النظر عن حَسَبِهِنَّ ونَسَبِهِنَّ ومن أي مكان جُلِبْنَ، فالفتيات اللواتي يتمتعن بمواصفات الجمال الآسر يُقَدَّمن للسلطان، وقد تصل إحداهن إلى مرتبة “كوزده” أي المنظورة لدى السلطان، فيصعد نجمها في الأفق وتكون المحظية الخاصة.

ولم تكن تلك القصور في حقيقتها إلا مظهرًا ونوعًا من التباهي والتفاخر والترف، وتحضرني هنا المقولة الشهيرة لابن خلدون “وإذا عَظُم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة”، ولذا حل بالسلاطين ما حل بغيرهم فانزلقوا في غياهب الشهوات والملذات والمحرمات، وهو ما أكده المؤرخ التركي “يلماز أزوتونا” بقوله عن السلطان عبد المجيد أنه كان مشغولا بالنساء والشراب، وتَعَجُّبه من النساء الشقراوات ذوات العيون الزرق، فأصبح القصر يعج بالمحظيات الأوروبيات من مختلف القوميات والأجناس، اللواتي سُرقن من أوطانهن أو خُطِفن، فأصبحن في القصر يقمن بأدوار المتعة وإحياء حفلات السمر والمجون، وما تبع ذلك من مراحل ضياع الهيبة والمكانة للسلطان والدولة معا، فبعض السلاطين مثلا قضى أيامه بين الجواري والموسيقيين حتى أصبح ألعوبة بينهم.

وجاء بعده السلطان عبد العزيز (1861-1876) ميلادي، وقد بلغ عدد الجواري في قصره حوالي أربعمائة جارية على أقل تقدير حتى ضاقت بِهِنَّ غرف القصر وازداد معهن عدد الأغوات الخصيان زيادة كبيرة حتى بلغ عدد سكان القصر ما يزيد على الألفين عدا الحراس والعساكر.

فأي ميزانية مالية تستطيع أن تسد حجم ذلك الإنفاق والتبذير على مظاهر الترف والانحلال الذي عاشه السلاطين، إضافة إلى سد حالة التنظيمات والبرتوكولات السلطانية في إدارة القصر ومتطلبات السلطان الشخصية وأهل بيته وحشمه وخدمه، وقد تنبه إلى ذلك مدحت باشا الصدر الأعظم، الذي حاول وضع حد لمثل ذلك الإسراف والتبذير المتوارث منذ قيام الدولة العثمانية، وضبط الأمور المالية ومنها محاولته إلغاء نظام الرق وعتق الجواري والعبيد الموجودين في القصر.

وبطبيعة الحال لم تجد نفعًا تلك المحاولات أبدًا، بل أودت بحياته لاحقا، وخلاف ذلك كله مدى التأثير الذي أحدثته تلك القوة الناعمة في قسم الحرملك من الجواري والمحظيات والوصيفات وغيرهن من تأثير مباشر على سياسة الدولة وإدارتها، وشهدت زيادة في النفوذ السلبي على قرارات السلطان وعلى حكومته، فضاعت الدولة بين الترف والجواري ونتج عنها الانزلاق سريعًا نحو الهاوية .