مجموعة من فلسفات الديانات القديمة

المنشأ الفارسي للحركات الباطنية المنحرفة في الإسلام

تعدُّ الحركات الباطنية من أخطر الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي؛ ويرجع ذلك إلى أن هذه الحركات ادَّعت الانتساب إلى الإسلام، بينما كان هدفها الحقيقي الخفي صرف الدين الإسلامي عن مقاصده الحقيقية، والتشكيك فيه وفي أهميته. وتزداد خطورة الحركات الباطنية وخبث مقاصدها عندما نعرف أن معظم هذه الحركات تستَّرت وراء شعار ديني عاطفي.

ويكاد يُجمع العلماء على أن الباطنية حركة من الغلاة ظهرت وانتشرت في العالم الإسلامي. والمفهوم الرئيس لدى هذه الحركات هو الدعوة إلى أن النصوص الدينية لها ظواهر يدركها عامة الناس ولها بواطن لا يدركها إلا الخواص الذين اختصهم الله بأمور العقيدة، ووصل الأمر ببعضها إلى القول بألوهية أئمتهم. ولقبوا بالباطنية لدعواهم أن للقرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر.

ابتدعت هذه الحركات المنهج الباطني في تأويل الشريعة على نحو وصل في نهاية الأمر إلى نسخ الشريعة، من أجل رواج فكرهم الباطني المستمد أساسًا من خليط من ديانات الفرس القديمة، واليهودية، مع الاستعانة بالفلسفة اليونانية عند الحاجة. كما أنكرت الحركات الباطنية التفاسير المختلفة التي وضعها علماء الإسلام الأجلاء، ومالوا إلى أن الإمام هو وحده المخوَّل بالحق في تفسير النصوص الدينية. وتؤمن معظم الحركات الباطنية بمبدأ “التناسخ” أي تناسخ الأرواح، سواء بين الإنسان والإنسان، أو حتى بين الإنسان والحيوان، وهذا ما تقول به فرقهم.

ومن التعاليم الغريبة الشاذة ما نادى به ميمون القداح، وإليه تنسب ما عرفت بالفرقة الميمونية، التي لها علاقة وثيقة بفرقة “الخطابية”، إذ زعم هؤلاء تحريم العمل بظواهر الكتاب والسنة، ورفضوا فكرة المعاد في الآخرة.

وردَّ العلماء جميعًا برفض الفكر الضال المضلل للحركات الباطنية، بل رفضوا أصلاً نسبة هؤلاء إلى مفهوم “الباطن” لأن الباطن اسم من أسماء الله، ومعناه لغويًا: المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم، فلا يدركه بصر، ولا يحيط به وهم.

ووضع كبار العلماء العديد من المؤلفات في الرد على الفكر الضال والمضلل للحركات الباطنية. ويُجمِع الباحثون على الدور الذي لعبه المتطرفون من الفرس في ابتداع الفكر والحركة الباطنية. ويعطي عبد الوهاب عزام، وهو من رواد الدراسات الفارسية في العالم العربي، تفسيرًا سياسيًّا وعرقيًّا مهمًّا وراء ابتداع بعض الفرس لمثل هذه الحركات؛ إذ يرى أن غلاة القوميين من الفرس، رغم دخولهم في الإسلام، بقوا على كراهيتهم للعرب والإسلام، وظهر ذلك واضحًا في عصر الدولة الأموية. ثم انتعشت آمالهم في السيطرة على الدولة مع تأسيس الدولة العباسية، وبفضل أبي مسلم الخراساني “الفارسي” الذي أحدث قتله صدمة كبرى لدى الفرس، لدرجة أنهم لم يصدقوا موته، حيث بدأت أفكار خارجة عن الإسلام، واعتقد هؤلاء أن أبا مسلم “اختفى، وسيجيء مهديًا من بعد”.

آمنوا بما أملته عليهم ثقافتهم الفارسية وأرادوا إقحامها في الإسلام لتخدم مصالحهم الشعوبية.

ويرى عزام أن الانتصار لآل البيت كان ذريعة، وأن أبا مسلم وموته أدَّيا إلى ظهور حركات باطنية، مثل بابك الخرمي، وأن البعض منهم أراد هدم الكعبة انتقامًا لموت أبي مسلم، وامتد هذا إلى ما فعله القرامطة في الكعبة. ويرى عزام أن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على “بقايا العصبية الدينية والجنسية في نفوس الفرس”.

التأثير الفارسي على مجمل الحركات الباطنية واضح وجلي؛ إذ يرجع الخطيب الأصل التاريخي للباطنية إلى المجوس والصابئة. كما يشير محمد الخُشْت إلى أن المانوية، التي هي الديانة الفارسية القديمة، تعد إحدى الأصول الفلسفية والدينية للحركات الباطنية. كما أن الحسن الصباح -مؤسس الفرقة الشهيرة بالحشاشين، وهي فرقة باطنية إرهابية- هو فارسي الأصل، وقام بالدعوة في بلاد فارس للإمام المستور، وأسس قلعة لأتباعه هي قلعة “آلموت” الشهيرة. وكان ميمون القداح، الذي سبق ذكره من الفرس أيضًا. كما تأثرت فرقة البابكية التي تنسب إلى بابك الخرمي بالمزدكية، وهي إحدى الديانات الفارسية القديمة.

كما أعلن بعض دعاة الباطنية من الفرس، عن انشقاق جديد، عندما نادوا بألوهية الحاكم بأمر الله الفاطمي في عام 408هـ، وكان من أشهر هؤلاء حمزة بن عليّ الزوزني الفارسي.

ويوضح المؤرخ العراقي الكبير عبد العزيز الدوري الأثر الفارسي العنصري المتطرف في نشأة الحركات الباطنية بأنها تسعى في مجملها إلى التظاهر بالإسلام، بينما تعمل في حقيقة الأمر على هدم “السلطان العربي الإسلامي”، كما تعمل على هدم الإسلام من الداخل.

وهكذا يمكن القول بأن معظم ما يسمى بالحركات الباطنية، هي في حقيقة أمرها خروجٌ عن الإسلام الصحيح. وأن هذه الحركات أنكرت التفاسير المجمع عليها، ونادت بالتأويل الباطني، وأن لها صلة وثيقة بالتيار القومي الفارسي المتطرف، وكانت جميعها ضد العرب والإسلام.

  1. محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عمَّان: د.ن، 1986).

 

  1. محمد اليماني، كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة، وكيفية مذهبهم، وبيان اعتقادهم، تحقيق وتقديم: محمد الخُشْت (الرياض: د.ن، د.ت).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2013).

 

  1. عبد العزيز الدوري، الجذور التاريخية للشعوبية، طـ3 (بيروت: د.ن، 1981).