في تكرارٍ للدرس التاريخي

المؤسس الملك عبدالعزيز يرسي المفهوم الوطني الذي لم يفقهه العثمانيون

استطاع العثمانيون بمساعدة حلفائهم في الجزيرة العربية إسقاط الدولة السعودية الثانية. غير أن الذي صعُب على العثمانيين الأتراك أنهم لم يستوعبوا الدرس التاريخي ويستفيدوا منه؛ إذ إن السقوط السياسي لا يعني سقوطًا على المدى البعيد، فحين قامت الدولة السعودية الأولى وبعدها الثانية سياسيًا؛ هي في الأصل قائمة قبل ذلك في نفوس الأهالي السعوديين، والولاء لأسرة آل سعود استمر في قلوب الناس والجزيرة العربية كافة.

العام الذي عاد فيه الملك عبدالعزيز لاسترداد الرياض في (1901) كان عامًا لانطلاق أعظم ملحمة وطنية سعودية لبناء وطنٍ عظيم تمثل في المملكة العربية السعودية، إذ إن الملك عبد العزيز استرد الرياض، مُوقِنًا بأنها اللبنة الأولى التي ينطلق منها إلى بقية حدوده السعودية، لذلك ما أن حلَّ عام (1903) إلا واسترد الوشم وسدير، واتجه في جهاتٍ عدَّة منطلقًا من الرياض إلى بقية أرجاء الوطن.

العام (1904) كان عامًا مهمًّا في تاريخ المملكة العربية السعودية، وهو العام الذي اتجه فيه الملك عبدالعزيز إلى القصيم، المنطقة الفاصلة استراتيجيًّا في ميزان القوى بينه وبين وخصومه والدولة العثمانية، حيث استرد عنيزة وبريدة وبقية بلدان القصيم، فذلكم الذي أربك حسابات الدولة العثمانية، أولئك الذين وقفوا خلف حليفهم عبدالعزيز بن رشيد في حائل، إذ أصبحت القوات السعودية بالقرب منهم لاسترداد ما تبقى من أرض الوطن شمالاً.

عقد العثمانيون عزمهم على وقف انتصارات الملك عبدالعزيز وتمدده في جهات الجزيرة العربية، لذلك أرسلوا ثماني كتائب من الجنود النظاميين، جاء جزء منهم من المدينة المنورة بقيادة صدقي باشا، وجاء جزء آخر من بغداد بقيادة فيضي باشا من أجل دعم أنصارهم المحليين ومواجهة السعوديين في القصيم.

حدثت المواجهة الأولى بين الملك عبدالعزيز والقوات العثمانية مع حلفائها المحليين في البكيرية، واستمرت المواجهات فترةً طويلة استطاع فيها السعوديون بقيادة الملك عبدالعزيز تلقين الأتراك وحلفاءهم درسًا ثقيلًا لا يُنسى، إذ يصف عبدالله فيلبي ضخامة الأمر قائلاً: “من الصعب أن نصدق كيف أن قوة تركية كاملة تتألف من ثماني كتائب قد دُحِرَت في المعركة”. وما يفسر تعجب فيلبي أن السعوديين لم يكونوا يخنعوا للحسابات المنطقية على أرض المعركة، إذ تكرر الأمر نفسه في مواقع عدة في عصري الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، وها هو يتكرر مع الملك عبدالعزيز.

الملك عبدالعزيز رفض العرض الانهزامي الذي تقدم به العثمانيون بعد الشنانة

السعوديون يقاتلون العدو العثماني في جميع مواجهاتهم العسكرية على مر التاريخ بعامل نفسي مهم، وهو أنهم يقاتلون دفاعًا عن أرضهم وعرضهم وعقيدتهم، وهو ما تكرر في حرب الملك عبدالعزيز وجيشه في البكيرية، كما أن الملك عبدالعزيز جاء وهو يؤمن ويرى صورة وطنه العظيم الذي سعى إلى تأسيسه، لذا لم تكن لتقف أمامه أعظم قوة عسكرية عثمانية أو غيرها.

لذلك لم يكتفِ الملك عبدالعزيز بانتصاره في البكيرية، وإنما انطلق يطارد فلول العثمانيين الأتراك وحلفاءهم المحليين عبر الخبرا والرس، إلى أن حدثت معركة الشنانة في سبتمبر (1904)، التي انتصر فيها مجددًا على الأتراك وحلفائهم.

ومع هزيمة العثمانيين في الشنانة؛ أدركت الدولة العثمانية تنامي قوة الملك عبدالعزيز في المنطقة، لذلك لجأت إلى أسلوب المفاوضة معه، واقترح العثمانيون جعل منطقة القصيم منطقة محايدة، على أن ترابط بها حامية عثمانية، وأن يكون الملك عبدالعزيز قائمقامًا عليها من قبلهم، لكن الملك عبدالعزيز لم يكن ليقبل بمثل هذا العرض وهو المنتصر، ولا يلتفت إلى مفاوضات العدو، فرفض الخضوع للأتراك، واستمر في سياسته لتطهير الوطن من العثمانيين في طريقه لتوحيد حدود الوطن كاملةً.

الملك عبدالعزيز كان يفكر بأبعد مما كان يفكر فيه العثمانيون، فالمؤسس يسعى لتأسيس وطن، والعثمانيون يسعون لتحقيق مكاسب، وفرق شاسع بين الثرى والثريا، ولم تكن محاولات الأتراك وحلفائهم إلا أقل بكثير من طموحات المؤسس، لذلك لم يستطيعوا أن يجاروا الوطن على يد الملك عبدالعزيز بكل قواهم ومحاولاتهم.

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط4 (بيروت: دار الريحاني، 1970).

 

  1. بندر بن ناحل، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود عبقريته العسكرية وحنكته السياسية (الرياض: الحرس الوطني، 1999).

 

  1. حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935).

 

  1. خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985).

 

  1. السيد رجب حراز، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب 1840- 1909 (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970).

 

  1. عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط 12 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).