على خطى المغول.. قتلوا الأهالي وأعدموا أميرهم

بفتوى فقهاء "القوارب" أقيمت المجزرة العثمانية ضد أهالي تنس

قُتل أهل الجزائر مرتين، مرة حين أدركوا أن على تلك الأرض من يُمكنه أن يتخذ الدين الإسلامي الحنيف ستارًا لأبشع الجرائم الإنسانية، والأخرى حين وجدوا سهام العثمانيين تنفذ إلى قلوبهم غير مكترثة بآلاف الألسنة التي رددت الشهادتين قبل تسليم الروح.

تلك الصدمة نتيجتها أنه لم يدر في خلد الجزائريين الذين استقبلوا القراصنة الأتراك في ميناء المدينة، استقبال الفاتحين، بأنهم مقبلون على أسوأ حقبة تاريخية للمنطقة، وبأن ما عانوه على يد الاستعمار الإسباني لا يُذكر أمام دموية الأخوين عروج وخير الدين بربروسا، واللذان اعتبرا السيف الوسيلة الوحيدة لإخضاع سكان المنطقة، وتأسيس دولة في غرب الجزائر.

وإذا كانت صدمة أهالي تنس شديدة في مصابهم الجلل، فإن ما قام به عروج لا يعد استثناءً أمام المجازر، التي حدثت لإخضاع مدينة الجزائر حيث استحل دماء الجزائريين، ولم يُقم وزنًا حتى لبيوت الله حين دخل على المصلين وذبحهم صبرًا، في مشهد تقشعر له الأبدان، وتشيب له الولدان.

قبل الحديث عن المجازر التي لا يضاهيها سوى ما يفعله المتطرفون خلال السنوات الأخيرة، يجب توضيح أنه من الناحية الجيواستراتيجية، تجتمع في مدينة تنس مجموعة من المقومات التي جعلت من إخضاعها رهانًا مصيريًّا للقراصنة عروج وخير الدين، وهو ما عبر عنه هذا الأخير في مذكراته بالقول: “كان أخي الغازي عرّوج يرغب في ضم هذه البلدة إلى نفوذه”، هذا الاعتراف يقطع بالنوايا الاستعمارية لعروج بربروسا رغم محاولة تكييف هذه المطامع تحت مبررات الجهاد، وتحرير المدينة من بطش الإسبان الذين أرسل ملكهم “عشر قطع بحرية متظاهرًا برغبته في حماية أمير تنس، أما قصده الحقيقي فقد كان يتمثل في النيل من المسلمين”.

ومن خلال استقراء المعطيات التي أوردتها مجموعة من الشواهد التاريخية، يتبين بأن عروجًا كان يريد كسر شوكة أمير تنس حميد العبدي، الذي لجأ إليه سكان المنطقة لتخليصهم من بطش الغزاة الأتراك، ويبدو أن قوة أمير تنس وموقعها الجغرافي المتميز جعلا منها هدفًا وجوديًّا للمشاريع الاستعمارية للأتراك، هذا التوجه يتقاطع مع ما طرحه المؤرخ الإسباني، دييغو دي هايدو، هو الذي يحيل عليه معظم الباحثين في هذه الفترة من تاريخ شمال إفريقيا، حين يقول في كتابه “تاريخ ملوك الجزائر” ما نصه: “وفي هذه اللحظة، الملك (يقصد ملك تنس) كان قويًّا، ويحمل ثقة كبيرة لدى الأعراب، إذ يترجونه في كل لحظة على مساعدتهم في التخلص من الأتراك، ومن مساوئهم غير  القابلة للتحمل والتي طالت هذا الأمير يدعى حميد العبدي”.

تسبب الموقع الجغرافي المميز لمدينة تنس في جعلها هدفًا وجوديًّا لمشاريع الاحتلال العثماني في المغرب العربي.

وكعادة المجرمين العثمانيين، فإن رؤية عروج وخير الدين بربروسا للبنية السلوكية لسكان المنطقة، بالإضافة إلى مكانة أمير تنس ووزنه، دفعهما إلى البحث عن مسوغ شرعي لقتاله ونزع سلطانه، فكانت نصيحة بعض “فقهاء القراصنة” هي اللجوء إلى النص من أجل رمي الأمير بالتكفير كمقدمة للزحف والنفير، وضم إمارة تنس إلى إمبراطورية سلطان “القوارب”.

وكما سبق وأن قدمنا لهذا التكتيك، فقد كانت التهمة جاهزة، ولم يكن ينقصها إلا مباركة بعض “الفقهاء” الذين طلب منهم عروج فتوى شرعية، على مرأى ومسمع من جمع من الناس، وتحت تهديد سيفه المُشرع ولسان حاله يقول: “دم أمير تنس أو دمكم”، وحول مقدمات هذه المذبحة يقول خير الدين بربروسا: “جمع عروج علماء الجزائر وسألهم مستفتيًا: أيها السادة: ما حكم الشرع فيمن هادن الكفار الإسبان، وبايع ملك إسبانيا الذي سار لقتل إخواننا في الدين، وقابل نصحنا بالكنود؟”، فكان جواب العلماء أن “قتله واجب، ودمه هدر، وماله مباح”، ثم كتبوا هذه الفتوى وسلموها لأخي عروج” .

وعلى خطى المغول، أعطى عروج الأمان لأهالي تنس، الذين سلموه أميرهم، وقبِلَ منهم اعتذارهم؛ لأنه “رقيق القلب” حسب وصف أخيه خير الدين، غير أنه وبمجرد إعدام أمير تنس، نَقَض عروج عهده مثل كل المجرمين، وخاطب الجماعة الذين سلموه أمير تنس قائلًا: “كان عليكم أن تشدوا وثاق هذا اللعين وتبعثوا به إلي عندما جاء إليكم، وما قمتم به بعدما رأيتموني لا يعفيكم من المسؤولية، ألم تبايعوني سلطانًا عليكم؟ كيف خنتم أيمانكم؟ ثم أمر بضرب أعناقهم أيضًا”.

وهنا لا بد وأن يلاحظ القارئ أن عروجًا زعم كذبًا أن القوم بايعوه، وهو لم يسبق له أن دخل المدينة ولم يبايعه أهلها، بل الثابت أنهم استجاروا بالأمير حميد العبدي لإنقاذهم من بطش القراصنة، وليس العكس، لكن عقيدة التكفير والاستعلاء التي تشبع بها القراصنة الأتراك، وادعاء امتلاكهم للشرعية الدينية بعدما أعلنوا بيعتهم لآل عثمان، جعلتهم يعتقدون في أنفسهم الإمامة العامة، وبأنهم نواب “أمير المؤمنين” وظل الله فوق أرضه.

  1. مذكرات خير الدين بربروسا، ترجمة: محمد دراج (الجزائر: شركة الأصالة، 2010).

 

  1. فراي ديغو هايدو، تاريخ ملوك الجزائر، ترجمة: عبدالعزيز الأعلى (الجزائر: دار الهدى، 2013).

 

  1. صالح عباد، الجزائر خلال الحكم التركي 1514-1830 (الجزائر: دار هومه، 2012).

 

  1. مبارك الميلي، تاريخ الجزائر في القديم والحديث (الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، د.ت).