تكتيك البرامكة للتحكم في مقاليد الدولة العباسية
تسللوا إلى قناعات الخلفاء فعزلوهم بمظاهر الأبهة دون السلطة
تُعَدُّ حالة “الوزراء البرامكة” ظاهرةً سياسيةً مهمة لم تستوف حقها من التحليل والرصد، رغم أنها ألهمت مجموعة من التنظيمات التي رأت في التقرب من السلطة والاجتهاد، إحدى المقدمات للتحكم في المطبخ الداخلي (البلاط)، وفي منظومة صناعة القرار السياسي.
البرامكة نجحوا في تسلق سُلَّم السلطة وامتلاك ناصية الاقتصاد في الدولة العباسية، وهو ما جعلهم يتحكمون في مفاصل السلطة دون أن يثيروا حفيظة الخلفاء. ولعل هارون الرشيد كان أول من تَنَبَّه إلى ضرورة قطع شأفتهم؛ لأنهم وصلوا إلى ما يمكن اعتباره “نقطة اللا عودة”، وفي ذلك قوله: “ما عد البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم، وأنهم هم الدولة وأن لا نعمة لبني عباس إلاّ والبرامكة أنعموا عليهم بها”.
ويمكن القول بأن البرامكة استطاعوا أن يمسكوا بأهم المناصب الحيوية، من منصب صاحب الدولة الذي كان يتولاه يحيى البرمكي إلى منصب قائد الجيش الذي عُهد به للفضل بن يحيى، ووصولاً إلى جعفر بن يحيى الذي تناوب على مجموعة من المناصب السياسية والعسكرية. ناهيك عن احتكارهم الأراضي الزراعية والضياع الكبرى، حتى ظنوا أنهم أصحاب الدولة حقًّا، بل كانوا يتصرفون على هذا الأساس.
وفي هذا السياق، نعتقد بأن نكبة البرامكة بدأت عندما استهانوا بذكاء هارون الرشيد ودهائه، واعتقدوا بأنه غير قادر على التحرك والمناورة من دونهم، وبأنهم متحكمون في عصب الدولة السياسي والعسكري، وهو ما عبر عنه جعفر بن يحيى في رده على إسماعيل بن يحيى الهاشمي بالقول: “والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك إلاّ بفضلي. ولا قامت هذه الدولة إلا بنا…ولا زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينيه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي من بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودبّ فيه الطمع. والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكونن وبالاً عليه سريعاً”.
استهانوا بدهاء الرشيد وتمرسه السياسي؛ فتجرأوا وتجبروا عليه وعلى العرب.
ساهم هارون الرشيد في تضييق الخناق على نفسه وحكمه حين مَكَّن للبرامكة، وارتأى الاحتفاظ بمظاهر السلطة لا بمضمونها، فَمَكَّن ليحيى البرمكي و”استوزره وأمَّره، وملّكه وملّك أولاده معه، وارتمى في أحضانهم سياسيًّا واقتصاديًّا وإداريًّا، وخلع نفسه أو كاد من كل شؤون الدولة”. ومن جهتهم، نسي البرامكة أو تناسوا بأن ما وصلوا إليه من مناصب ونفوذ إنما بفضل انتمائهم للدولة العباسية، التي حكموا باسمها وارتقوا بانتسابهم إليها، ونسي القوم مصير من سبقوهم، ولم تكن نكبة أبي مسلم الخراساني عنهم ببعيد.
“السلطان عقيم”…تلكم هي النقطة التي لم ينتبه إليها البرامكة رغم دهاء يحيى البرمكي، الذي كان يعلم بأنه لا سلطان لهم إلا في ظل الدولة العباسية وإلا لثار عليهم القوم. لذلك رأى البرامكة ضرورة الحفاظ على خليفة صوري “يسود ولا يحكم”، وهو ما لم يكن ليقبله الرشيد الذي تمرس في دهاليز الحكم والسياسة.
وإذا كانت الاستهانة بشخصية هارون الرشيد قد أسهمت في بداية النقمة على البرامكة، فإن استفزاز زوجته زبيدة والتضييق عليها في النفقات، قد عجل بالقضاء على وجودهم، خاصة أنها المرأة الفخورة بنسبها ونسبتها إلى جعفر بن المنصور. فكما أن يحيى البرمكي ارتقى إلى أعلى مناصب السلطة بفضل تزكية الخيزران أم الخليفة، فإن بداية النكبة ساهمت بها زبيدة زوجة الرشيد.
والواقع أن هارون الرشيد لم يقف مكتوف الأيدي، بل تحرك أولاً ليضبط أمور القصر عن طريق وزيره ابن الربيع، أيضا زرع عيونًا تدين له بالولاء الشخصي ، بالإضافة إلى تحركات زبيدة التي قامت باستنهاض رؤوس بني هاشم، حيث نجحت هذه المحاولات في فرز الموالين للدولة وأتباع البرامكة. وقد ساهم استعلاء يحيى البرمكي في جر سخط كل من لم يستفد من “إكراميات البرامكة”، خاصة من العرب الناقمين على من يرونهم “طارئين ومتطفلين على شؤون الدولة”.
إجمالاً يمكن القول بأن البرامكة قد حفروا قبورهم بأيديهم، واعتقدوا بأنهم أصحاب الدولة المتحكمين في جميع خيوطها، وهو ما دفع هارون الرشيد إلى الاستفاقة من غيبوبة سياسية طالت بتفضيل لم يكن البرامكة أهلا له. وجاءت اللحظة التي تنبه فيها الرشيد “لدينه وعربيته وقوميته، فوجد كل ذلك في خطر بحسب ما رأى. فأعمل الحيلة حتى تخلص هو وأسرته وقوميته وعربيته ودينه ولغته من عقبان كواسر كادت تفتك به”.
- أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014).
- صالح رمضان، “النهج الشعوبي لدى البرامكة”، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، جامعة الموصل، ع.4 (2010).
- قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985م).
- علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطبعة الدجوي، 1979).
- محمد دياب الأتليدي، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس (بيروت: دار صادر، 1990).
- محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).