بدعوتهم للعباسيين صنع الفرس لأنفسهم دولةً عنصرية داخل الدولة العربية

تعد الدعوة العباسية من أهم التحولات في التاريخ الإسلامي، وبالقطع يرجع ذلك إلى نجاحها في إسقاط أول دولة وراثية في تاريخ الإسلام، ونقصد بها الدولة الأموية. وترتب على ذلك قيام دولة العباسيين، التي استمرت في الحكم لعدة قرون، رغم العديد من المتغيرات السياسية، التي أصابتها بالوهن.

لكن ما يهمنا هنا هو الدور الفارسي في الدعوة لآل العباس، وصولاً إلى محاولة الفرس السيطرة على آليات الدعوة، ليحكموا من وراء الستار بعد نجاحها وقيام الدولة العباسية، ومدى تأثير ذلك على العنصر العربي، المُكَوِّن الرئيس للدولة العباسية.

تنتسب الدولة العباسية إلى العباس بن عبد المطلب، عم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذي كان يحبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويُجِلُّه، وسار على ذلك الخلفاء من بعده، توفى العباس في عهد خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم يُعلَم عنه أنه طالب بالخلافة، كذلك لم يُعلَم عن أبنائه ذلك. بينما طالب العلويون -أبناء عليّ بن أبي طالب- بالخلافة في قصتهم المعروفة، منذ خلافة عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وما جرى معه من أحداث، وذريته من بعده.

والسؤال هنا؛ إذا كان الفرع العباسي، منذ العباس عم الرسول لم يطالب بالخلافة، فمن أين جاء هذا المستجد الذي على أساسه وُضِعَ التأسيس الأيديولوجي للدعوة العباسية؟

بدأت المسألة برواية انتشرت إلى حد بعيد، أسست لفكرة انتقال المطالبة بالخلافة من البيت العلوي إلى العباسي، على أساس أن الجميع من آل هاشم؛ إذ روَّج البعض أن أبا هاشم بن محمد بن الحنفية عندما حضرته الوفاة أوصى بانتقال الإمامة من بعده إلى البيت العباسي، وعلى وجه التحديد إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس. وعلى ذلك أصبحت الدعوة لآل هاشم بصفة عامة، ومن هنا بدأ العباسيون سعيهم للخلافة.

اتسمت الدعوة العباسية في بداياتها بالسرية؛ خوفًا من مواجهة الأمويين، والقضاء على الدعوة. لذلك بدأت الحركة بالدعوة إلى “الإمام المستور” حتى لا يعرفه الأمويون، كما رفعت شعار “الرضى من آل البيت” حتى لا يُثِيروا العلويين، وكأن الدعوة بهذا الشعار المبهم، تحتمل أي فرع من فروع آل هاشم.

ويقدم محمد عبد الله عنان تفسيرًا مهمًّا لنجاح الدعوة العباسية استنادًا إلى مفهوم العصبية لدى ابن خلدون؛ إذ يرى عنان أن: “بني العباس لبثوا زمنًا يتطلعون إلى المُلك، ولما لم تكن لهم عصبية كافية، اندمجوا في الحركة الشيعية، ووجدوا في التذرع بها وسيلة ناجعة لاستهواء الجموع”.

ومن الملاحظ أن الفرس كانوا هم أكثر أنصار الدعوة العباسية، لا سيما في منطقة خرسان، وللمؤرخ محمد الخضري اجتهادٌ في تفسير ذلك، وهو اجتهاد لا يخلو من وجاهة؛ إذ يرى الخضري أنه: “كان الذين دخلوا في الإسلام من الفرس أقرب من غيرهم إلى التأثر بآراء الشيعة؛ لأنهم لا يفرقون بين خلافة ومُلك. وكان المُلك عندهم يُنال بالإرث، وهو منحة من الله للأسرة المالكة، فمن عارضها فيه، فهو خارج عليها، يستحق المقت واللعنة. فإذا ألقي إليهم- الفرس- أن بني أمية غصبوا أهل بيت النبي حقهم سهلت إلى ذلك إجابتهم، واعتقدوا أن بني أمية يجب قتالهم وتخليص هذا الحق المقدس عنهم”.

هذا التفسير مبني على أسس دينية وثقافية فارسية قديمة، في شرح انضمام الفرس إلى الدعوة العباسية. لكن من المهم بيان العديد من الأسباب الأخرى وراء ذلك، لعل منها البُعد الجغرافي للولايات الفارسية، لا سيما خراسان، المركز الرئيس لعسكرة الدعوة، عن مركز الدولة الأموية في دمشق. وهنا تتضح لنا مدى خطورة الأطراف بالنسبة للمركز.

ويشير البعض إلى وجود عامل عنصري وراء وقوف الفرس مع الدعوة العباسية، وهو كراهية الفرس للدولة الأموية التي كانت تفضل العنصر العربي، على أساس أن “العرب هم مادة الإسلام”. ومن ثَمَّ انضم الفرس بكثرة إلى الدعوة العباسية؛ نكايةً في الدولة الأموية وطمعًا في التوصل إلى الحكم وراء ستار البيت العباسي. ويؤكد على ذلك الخضري قائلاً: “رأوا- الفرس- دولتهم قد زالت وصاروا موالِيَ للعرب … فوجدوا في هذه- الدعوة- فرصة يستردون بها شيئًا مما كان لهم من العظمة، ويذلون هؤلاء العرب… فرأوا أنهم بمساعدتهم لهذه الدولة الجديدة- العباسية- يكونون أصحاب الكلمة المسموعة فيها والسلطان النافذ، وتأثير هذا السبب في الخاصة أكثر منه في العامة”.

ويشير البعض الآخر إلى أمر مهم، وهو أن نجاح الدعوة العباسية لم يكن لأسباب دينية، أو عرقية عنصرية فقط، وإنما لعب المال دورًا مهمًّا في إنجاح هذه الدعوة. ويؤكد هؤلاء على أهمية هبات الأغنياء من مناصري الدعوة، ولا سيما في خراسان، كذلك إلى التبرعات المالية المفروضة، وأيضًا استيلاء العباسيين على أموال “بيت المال” في المدن التي استولوا عليها من الأمويين. ويشير أيضًا إلى دعوة العباسيين أنهم بصفتهم من آل البيت النبوي فلهم الحق المكتسب في “الخُمس” من الأموال. واستخدموا هذه الأموال لكسب ود الأتباع، والإنفاق على الجنود، وتمويل الحرب ضد الأمويين.

تدلنا التجربة التاريخية أنه في تاريخ الدعوات السرية ينبغي عدم الاقتصار على العامل الأيديولوجي فحسب، بل من المهم البحث عن العامل الاقتصادي وتمويل الدعوة وكسب الأتباع.

هكذا اجتمعت العديد من العوامل وراء نجاح الدعوة العباسية وقيام دولتها على حساب سقوط الدولة الأموية، وفتح الباب أمام صعود العنصر الفارسي إلى المراتب العليا في الحكم، وربما يتضح ذلك في طبيعة الدور الذي لعبه أبو مسلم الخراساني في نجاح الدعوة العباسية والقضاء على الأموييين، ويكفي أن نذكر أن هدف أبي مسلم الخراساني كان: “إن قدرت ألا تُبقي بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل”.

ويشير عنان إلى أن العباسيين بعد نجاح الدولة أدركوا مدى خطورة مراكز القوى الفارسية على استقرارها، ومن هنا كانت المواجهة مع أبي مسلم الخراساني، وبعد ذلك مواجهة البرامكة.

اعتمدت الدعوة العباسية على العنصر الفارسي للترويج لها في أطراف الدولة الأموية البعيدة.

لكن الفرس لن ينسوا أبدًا أنهم كانوا السبب الرئيس- من وجهة نظرهم- في نجاح الدعوة وقيام الدولة العباسية. حتى أصبح العنصر الفارسي بعد ذلك “دولة داخل الدولة” ونقطة الضعف الرئيسة في تاريخ العباسيين.

  1. أحمد محمد، “المال ودوره في الدعوة العباسية”، مجلة كلية التربية، جامعة الإسكندرية، المجلد الحادي والثلاثون (2021).

 

  1. حسين عطوان، الدعوة العباسية تاريخ وتطور، ط2 (بيروت: دار الجيل، 1995).

 

  1. السيِّد سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993).

 

  1. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: الدولة العباسية، تحقيق: محمد العثماني (بيروت: دار القلم، 1986).

 

  1. نبيلة حسن، تاريخ الدولة العباسية (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1993).