بالحشد والشحن والتسويغ

إيران رعت الإرهاب في أعمق صوره وتمظهراته ... مشرعنةً الحقد والكراهية بين أبناء القومية الواحدة

ترفض الفطرة الإنسانية السليمة الحقد؛ لأنه أسوأ الصفات الذميمة بين البشرية، ولذلك نجد الحقد عند الفلاسفة والسياسيين مرادفًا للصراع والصدام ولا يمكن أن يكون عامل توحيد أو صفة تجميع. وبما أن الفرس لم يستطيعوا التخلص من ترسبات الماضي والنعرات العرقية القديمة، فقد حاولوا “شرعنة الحقد” من خلال اختراق بعض العرب الشيعة وتطويعهم لخدمة أجندة ظاهرها الانتصار لآل البيت، وباطنها الانتصار للعرق الفارسي، الذي وجد في الدين أداة ووسيلة لتصفية حسابات التاريخ وإعادة ترتيب الخريطة الجغرافية.

برمجة إيران العقلية للعرب التابعين لها؛ انطلقت إلى أفقٍ أبعد من الخلافات المذهبية والصراعات التاريخية البينية إلى كره الذات الكلية.

في هذا السياق، دفعت الفطرة السوية المقبلين على الإسلام إلى شكر الدعاة الذين أخرجوهم من ظلمات الجهل والخسران إلى نور الهدى والإيمان، باستثناء الفرس الذين نقموا على الدين تقيةً وعملوا على استعماله صراحة. اجتهد الفرس في محاولاتهم الركوب على المعطى المذهبي من خلال اللجوء إلى مفاهيم المظلومية والانتصار للدين وأئمة أهل البيت، الذين هم منهم براء. ويمكن التعبير عن هذه الحالة بالإحالة إلى أحد المفكرين الشيعة، الذي قال بأن “ثمة في تاريخ الفكر ما يجعل الأمر البسيط غاية في التعقيد والغموض، فيذهب بالفكرة ناحيةً لم يكن مؤسسوها قد ذهبوا إليها أو ظنوا أن تنجر إليها”.

إن صدمة الفرس بوتيرة الفتوحات الإسلامية التي قادها العرب، دفعتهم إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلت هؤلاء يحكمون جزءًا كبيرًا من العالم وتدين لهم رقاب الملوك وأفئدة الخلق من كل حدب وصوب. فكان اهتداء الفرس إلى أداة الضبط والربط داخل المجتمع المسلم والمرتبطة بـ “العقيدة” بأصلها الإلهي وتطبيقاتها النبوية الشريفة.

وإذا كان المسلمون قد انضبطوا إلى المعطى العقدي لنيل ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإن الفرس وجدوا فيها آلية لاحتكار الحكم وفصل “الطبقة الحاكمة” عن “المؤمنين العاديين”. ومن هنا قدم حكام الفرس الصفويون أنفسهم على أنهم نواب الله في أرضه الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، ومن ثم لم يخضعوا للتوجيه أو المساءلة. ومن جانب آخر استعملوا الخطاب الديني الشيعي لتكريس عقيدة العداء تجاه العرب، وجعلوا من الأتباع حطبًا في حرب عرقية قديمة جديدة، ليس لها علاقة بالمعطى الديني في أصله وروحه ورسالته.

أحد أبرز رموز الشيعة “المعتدلين” تناول هذه الإشكالية بطريقة هي الأقرب إلى الموضوعية عندما قارن بين التشيع التقليدي والتشيع الصفوي فيقول “ما جرى بشأن (التشيع الصادق) هو بعينه –وبدون تشبيه – ما جرى مع (التشيع الكاذب) إبان العهد الصفوي. حيث عمل الصفويون على تشييد أركان هذا التشيع الدخيل على أشلاء التشيع الأصيل، مستفيدين من إمكانياتهم الهائلة وقدراتهم السياسية العسكرية من المتاجرين بالدين أو العلماء المغفلين”.

ويمكن القول بأن الصفويين الفرس كانوا أذكياء (من الناحية السياسية فقط)؛ إذ استوعبوا بأن أية مناورة خارج الإطار الديني سيكون مآلها الفشل داخليًّا، ولن تكون لها القدرة على التعبئة خارجيًّا. وفي هذه الفترة بالضبط وقع الاختراق أو الانقلاب كما يطلق عليه البعض. لقد نجح الفرس في استعارة “نفس القوالب الفكرية والعقائدية لهذا التشيع بعد أن أفرغوها من مضمونها ومحتواها الواقعي وركَّبوا  عليها نفس أسسه ومبادئه بأسلوب ماكر هادئ، وبالاستعانة بعلماء ذوي خبرة واختصاص، وذلك لكي يتسنى لهم تمرير هذه العملية على ذقون الناس، وقد نجحوا بالفعل؛ إذ لم يتنَبَّه الناس إلى عملية التبديل تلك”.

الفرس لم يكونوا ليقبلوا الصعود الملفت للإسلام في لبوسه ولسانه العربي، واعتبروا أن أفول حضارتهم كان سببها الإسلام الذي “اجتاح” بلادهم، ومن ثم لم ينظروا إلى الأمر بمنطق الربح والخسارة في الدارين، وإنما بمنطق القطيعة التي أحدثها الإسلام لما يعتقدون أنها حضارة يجب أن تسود وتحكم.

هذا الطرح تتقاطع معه الباحثة منى فياض التي تقطع بأن “مقاومة الفرس ترتبط بانهيار حضارتهم بسبب الصعود العربي الإسلامي الذي انطلق كالسهم في سرعته بالانتشار مجتاحًا مناطق واسعة امتدت من الهند حتى المغرب العربي والأندلس”.

إن تحليل معظم الحروب التي عرفتها البشرية يؤكد بأن الدين كان في صلب استراتيجية الحشد والشحن والتبرير، على اعتبار أن الإنسان لا يمكنه أن يلقي بنفسه إلى ميادين الكراهية وإهلاك النفس إلا إذا شُحِنَ بحق أو بباطل، بتعبيرات دينية قوية تجعله يسترخص النفس في سبيل نهاية يرى أنها أسمى من علة وجوده واستمراره.

إنه الإرهاب في أعمق تجلياته وتمظهراته. وإذا كانت التنظيمات الإرهابية قد أقنعت المغرر بهم بأن الموت في سبيل الله أسهل من الحياة في سبيله، وجعلت هلاكهم منطلقا لبقاء الجماعة والتنظيم، فإن الفرس استطاعوا تطويع المذهب الشيعي خدمة لأجندة توسعية ترى في هلاك العرب مفتاحًا لبقائهم من جهة، ولاستعادة أمجاد حضارتهم، من جهة أخرى، وإلا كيف لمسلم أن يعتقد بأن صلاح إسلامه وكمال إيمانه يمر عبر هدم الكعبة المشرفة وانتشال جثث أحب الناس إلى قلب رسول الإسلام وسيد الأنام.

  1. كولن تيرنر، التشيع والتحول في العصر الصفوي (بغداد:  منشورات الجمل، 2008).
  2. علي شريعتي، التشيع العلوي والتشيع الصفوي بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2002).
  3. منى فياض “التشيع الإيراني بنكهته الفارسية السلطانية”، مقالة نشرت على موقع قناة الحرة على الرابط https://www.alhurra.com/different-angle/2018/06/17