الحرملك نشرن الفساد وأشْعَلنَ الصراع بين السلاطين

كيف انهارت الدولة

العثمانية على يد الجواري؟

يزعم السلاطين والملوك بأن دولهم سقطت نتيجة أسباب خارجة عن إرادتهم، بأن هناك من تآمر عليهم وأسقط مُلكهم، أو أن هناك قوى تعاظمت فسيطرت عليهم. 

لكن الحقيقة التي لا يحب أن يعرفها هؤلاء السلاطين والملوك، أن الإمبراطوريات تسقط من الداخل أولًا، حين يعيش الرعايا في فقر وجوع، ويسود التخلف ويهمل السلاطين أمور الحكم للهث وراء النساء ومجالس اللهو، وقتها فقط تسقط الدول من تلقاء نفسها.

هذا ما لم يقتنع به سلاطين العثمانيين الذين ما إن سقطت دولتهم حتى باتوا يروّجون أن سقوطهم كان سببه تآمر العالم كله عليهم، متناسين أن العالم العربي عاش في عهدهم قرونًا من الظلام والتخلف وتذيُّل قائمة الأمم بعد أن كان في الصدارة.

ومن يتتبع الروايات التاريخية يستطيع أن يعرف كيف ساهم الحرملك في سقوط الإمبراطورية العثمانية، فهذا المكان الذي أُسس باعتباره مكانًا خاصًّا يمارس فيه سلاطين الترك متعتهم مع النساء والجواري، وفرضوا عليه السرية التامة، تعاظم نفوذه وأصبح مقرًّا فعليًّا للحكم، ووصلت سلطة بعض جواري الحرملك إلى إصدار أوامر ينفذها سلاطين العثمانيين.

بالطبع هذا النفوذ -كما توضح المصادر التاريخية- لم يكن ليصبح على هذا النحو لولا ضعف سلاطين الترك الذين أهملوا شؤون الحكم من أجل إشباع رغباتهم الدنيئة، وحينما كان يعاني المسلمون من الفقر والجوع كان بنو عثمان يصرفون آلاف الليرات الذهبية على الحفلات الخاصة التي أقاموها في قصورهم. 

أضف إلىى ذلك أن بعض سلاطين بني عثمان، وقعوا في غرام كثيرٍ من الجواري وأصبحوا رهن إشارتهن، وكُنَّ تلك الجواري ينتمين -في بعض الأحيان- إلى دول عدوة للدولة العثمانية.

جوعوا العرب وصرفوا ليراتهم الذهبية على رغباتهم الدنيئة.

وظهر مدى تأثير الحرملك مبكرًا من خلال “خاندان سلطان” وهي والدة السلطان مصطفى الأول (1617-1623 ميلادي)، فتلك المرأة التي ترأست الحرملك أشعلت فتنة بين آغاوات الإنكشارية وحرضتهم على قتل السلطان عثمان الثاني، ضمن صراعات القتال على العرش وهو ما حدث في النهاية وتولى ابنها مصطفى الأول العرش. 

لكن ما فعلته خاندان سلطان لا يُعد شيئًا أمام “كوسم سلطان” زوجة السلطان أحمد الأول إحدى نساء الحرملك، فتلك المرأة استطاعت أن تتحكم في الإمبراطورية العثمانية بالكامل حتى اضطر ابنها السلطان إبراهيم الأول إلى إبعادها عن قصر الحكم خوفًا من نفوذها.

وكانت البداية حين شاركت كوسم سلطان، في قيادة الدولة أثناء حكم ابنها مراد الرابع (1623-1639 ميلادي)، واستغلت توليه العرش في سن الحادية عشر، لتقوم بكل الأدوار داخل قصر الحكم، كما شاركت في قيادة الدولة أثناء حكم ابنها الثاني (1640-1648 ميلادي)، وامتد نفوذها إلى عهد حفيدها محمد الرابع (1648-1687 ميلادي).

وتؤكد المصادر التاريخية أن كوسم سلطان، كانت ذكيَّة إلى درجة استثنائية، تتصف بالمكر والمراوغة وإجادة وضع الخطط السياسية المُحْكَمة، لكن كل ذلك استخدمته لتحقيق مصالح شخصية وليس لمصالح الدولة العثمانية والرعايا.

ونتيجة لذلك استطاعت كَوْسَم سلطان تكوين ثروة فاحشة انتقلت بعد وفاتها إلى خزينة الدولة، ولمعرفة مكانة تلك المرأة التي تحكّمت في الحرملك أولًا ثم الدولة العثمانية بعد ذلك، يكفي القول أنها عيّنت أتباعها في المناصب الإدارية الرئيسة، وتحكّمت في ترقية بعض الباشوات وأقامت علاقات خارجية حتى اضطر إبراهيم الأول ابنها إلى إبعادها عن القصر السلطاني لمدى تكالبها على السلطة.

تحكمت كَوْسَم سلطان في كافة شؤون الإمبرطورية العثمانية.

لكن ما فعله السلطان إبراهيم الأول لم يكن من أجل ذلك فقط، ففي صراع الولد مع أمه كوسم سلطان، كان هناك امرأة ثالثة وهي خديجة تورخان زوجة إبراهيم الأول التي كان لها هي الأخرى نفوذ قوي داخل قصر الحكم. 

ودار بين الأم المتسلطة والزوجة الباحثة عن النفوذ وبين السلطان الحائر صراع داخل قصر الحكم، انتهى ذلك الصراع بانتصار خديجة تورخان، الزوجة التي تخلّصت من حماتها بإبعادها عن قصر الحكم، فلم يكن من كوسم سلطان إلا أن حاولت إحلال سليمان الثاني مكان محمد الرابع؛ لاعتقادها بأنها تستطيع التلاعب بنحوٍ أفضل بسليمان وهو ما لم يحدث بعد ذلك.

انفراد خديجة تورخان بالقصر بعد ذلك دفعها إلى زيادة نفوذها هي الأخرى، وإن كان البعض يشير إليها ببعض الأدوار الإيجابية لكن هذا لم يكن له علاقة بالرعايا قدر توطيد حكم زوجها وليس أكثر. 

تلك الصورة لنساء الحرملك من أزواج سلاطين العثمانيين، تقابلها أيضًا صور أخرى لجوارٍ لعبن أدوارًا مهمة مثل “زبرجد” عشيقة السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909 ميلادي)، التي أقامت علاقة مع نديم آغا فدفعت الأخير إلى أن يعصي أوامر عبد الحميد الثاني ويقتل أحد الآغاوات في حادثة تحاكى بها الجميع ونالت من هيبة عبد الحميد الثاني كثيرًا.

أجبرت خديجة تورخان إبراهيم الأول على طرد أمه من القصر.

وتروي المصادر التاريخية، أنه لم يكن هناك عجب من أن الفترات التي شهدت تزايدًا في نفوذ نساء الحرملك، كانت فترات اضمحلال بالنسبة للدولة العثمانية، ففي عصر كوسم سلطان مثلًا انتشرت الفوضى في الأقاليم وسيطر الثوار على بعضها، بالإضافة إلى زيادة نفوذ الانكشارية وانتشار الرشوة والفساد.
كما هو الحال أيضًا في عصر خديجة تورخان حينما باتت صاحبة الكلمة على زوجها السلطان إبراهيم الأول، مع تصاعد نفوذ الدول الأجنبية التي طمعت في مُلك الدولة العثمانية، وهو ما بدا في صورة واضحة في عصر عبد الحميد الثاني الذي عُرف بولعه بالنساء، ففي الوقت الذي كان فيه مشغولاً بقصة الآغا الذي عشق جاريته المفضلة، كان العالم العربي يئن تحت وطأة الجوع والقهر، ذلك أدى إلى زيادة النزعات الاستقلالية التي بلغت أوجها في عهد عبد الحميد الثاني وانتهت بخلعه وإسقاط الدولة العثمانية في 1923 ميلاديًّا.

أدى نفوذ نساء الحرملك إلى انتشار الفساد والرشوة والقلاقل.

1. ﭼـيل ڤاينشتاين، الإمبراطورية في عظمتها في القرن السادس عشر، ضمن كتاب: تاريخ الدولة العثمانية، جـ1، إشراف: روبير مانتران، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة، 1993. 

2. برنارد لويس: إستانبول، وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان علي، جدة، 1982.