المغرب الأقصى عَصِيٌّ إلا بالغدر

توضح الوثائق التاريخية، أن بلاد المغرب الأقصى، شهدت صراعًا داخليًّا متأجِّجًا منذ عام 1535م، خاصة في فاس ومِكناس، بين الدولة السعدية والدولة الوطاسية، واستعانت الأخيرة بجنودٍ أتراك لحسم الصراع، لكن هؤلاء الجنود لم يكتفوا بذلك، بل أرسلوا إلى باشا الجزائر العثماني يخبرونه بما يحدث، وكيف انضموا إلى الوطاسي الذي أجزل لهم العطاء، كما أكدوا للباشا العثماني ضرورة إرسال المدد إليهم، وأوضحوا له أن فاس أفضل من الجزائر، وأن أهلها أقرب الناس للطاعة، ولا قوة لديهم للدفاع، خاصة أنهم – أي الأتراك – سيطروا على القلعة وما فيها من أسلحة وعتاد.

لكن ما ظنّه أولئك الجنود الأتراك كان سطحيًّا بعيدًا عن حقيقة الأمر، فبعد ذلك مباشرة حاصرهم أهالي فاس وأنزلوهم أسفل المدينة، وحين علم الجنود بهلاكهم طلبوا الأمان، لكن الأهالي اشترطوا عليهم تسليم الوطاس، وانتهى السجال بأن فرّ معظمهم، وعاد المغرب إلى سلطة الدولة السعدية، لكن بسبب هذا الصراع -كما يوضح بعض المؤرخين- فُتحت أبواب الشر.

أغدق محمد الشيخ، سلطان الدولة السعدية، على ما تبقى من الأتراك، الأموال بل كلّفهم بحراسته وحراسة مساكنه، ولما ارتحل إلى مراكش أنزلهم بجانب قصره، وفوّضهم بحراسة بابه وبالغ في الإحسان إليهم حتى أصبحوا -بحسب مؤرخين- من خاصته ، ولم يكن السعدي يعلم إلى أي مُنْقَلَبٍ سينقلبون.

بالتزامن مع ذلك، أرسل السلطان سليمان القانوني، رسالة يهنئ فيها السلطان السعدي، على ما تم له من نصر وفتح، وهذه لغة سلاطين آل عثمان، يعدون كل انتصار فتحًا، لكن السعدي لاحظ من المراسلات، عبارات الاستعلاء في صياغة الخطابات، ونفر بسبب ذلك من ترجمة الرسائل، حتى تلقى رسالة تطالبه بأن يعلن التبعية الاسمية المعنوية للسلطة العثمانية، وجيء فيها من سليمان القانوني: “على الشيخ أن يسلك طريق من سبقوه من بني مرين، الذين كانوا يذكرون آل عثمان على منابرهم، ومنهم من كتب أسماءنا على نقودهم ومسكوكاتهم”.

أما الشيخ فرد بقسوة، إذ أرسل مع المبعوث التركي صالح آغا ردًا على الرسالة فحواها أن الجواب سيكون في مصر، قاصدا بذلك أنه سيخلص بلاد المغرب من السيطرة التركية، وقد يضم مصر لإنقاذها من الاحتلال التركي الغاشم حين دخلها 1517م، وقد وثّق المؤرخين بأن المبعوث التركي خرج مرعوبًا من ردة فعل السلطان السعدي.

بسبب هذا الموقف البطولي، قرر سليمان القانوني التخلّص من السعدي غدرًا، فاغتالوه ووضعوا رأسه في كيس به ملح ونخالة، وأوصله جنود السلطان العثماني إلى إسطنبول، حيث تسلمه الصدر الأعظم الذي أبلغ بإتمام المهمة، ووقتها أمر سليمان القانوني بوضع رأس السعدي في شبك من نحاس وتعليقه على باب إحدى القلاع، ويذكر أحد الرحّالة، أن كثيرين عُلِّقت رؤوسهم في إسطنبول، ولم يكن العامة يعرفون أسباب ذلك، وإذا ما تساءلوا عن ذلك، قيل لهم: إن هؤلاء خارجون عن الدين ومارقون، ولابد من القضاء عليهم، وهذه الأسباب كانت تنتشر ويُتعمد نشرها بين العامة لبثِّ الخوف بينهم، وبالطبع، تلك الممارسات وغيرها، كانت لها أصداؤها السياسية، وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي على أهل البلاد من رعب وتفكك وعدم استقرار .