من الرقص والمتعة إلى إدارة شؤون الدولة العثمانية
جواري تربَّعن على كرسي
العرش العثماني
في عصر العثمانيين كان ممكنًا لأي جارية مجهولة النسب والديانة أن تجد نفسها في لحظة على كرسي العرش، مُتحكمة في حياة ملايين المسلمين، هذا ما تقوله المصادر التاريخية التي وصفت كيفية وصول نفوذ بعض الجواري في عصر الدولة العثمانية، وكيف أصبحن أمهات وزوجات لسلاطين الترك.
لم يكن الطريق صعبًا، يكفي أن تُجيد أي جارية فن إيقاع السلطان في غرامها لتُنجب منه، وبحسب البروتوكولات العثمانية تُصبح زوجة ثم أمًا للسلطان المقبل، وهي مكانة تمنح صاحبتها سيادة وحظوة متوقعة على عرش آل عثمان، ومن ثَمَّ التحكم في مصير ملايين المسلمين الواقعين في البلاد التي احتلتها الدولة العثمانية.
أمام ضعف سلاطين الترك أيضًا تُصبح المهمة سهلة، فأغلب بني عثمان -بحسب المصادر التاريخية- لم يلهثوا وراء شيء قدر النساء، ولم يفعلوا في حياتهم أكثر من الاستلقاء على الأسرّة حتى أن بعض السلاطين لم يغادروا قصورهم قط، إضافةً إلى الإسراف في شراء الجواري من شتى أنحاء العالم وتكدسهن في الحرملك حيث المكان المخصص لهن في قصور الحكم، وهو أمر حذّر منه كثير من قادة الدولة العثمانية نفسها إذ إن كثيرًا من الجواري تظاهرن باعتناق الإسلام وحب السلطان وهن في الحقيقة لسن سوى عيون لِدُولهن الأصلية المعادية للدولة العثمانية وللمسلمين في آن واحد.
لكن سلاطين العثمانيين لم يلتفتوا إلى تلك التحذيرات، إذ لم يكترثوا بالرعية في الحقيقة، فالمهم عندهم تلبية رغباتهم وشهواتهم، فتوسعوا في شراء الجواري وروّجوا لأسواق النخاسة، وكانت النتيجة أن الحرملك كان به عام (1475) ما يتجاوز 400 جارية ينتمين لجنسيات مختلفة، الرابط الوحيد أن جميعهن يتبعن السلطان.
وبحسب المنظومة التي وضعها بنو عثمان للجواري ودرجات الترقي داخل الحرملك، كان أسرع الطرق أن يعشق السلطان جارية وتُنجب له ابنًا يكون وليًا للعهد، وهو ما حدث كثيرًا، لكن لم يقف الأمر عند هذا الحد إذ إن بعض الجواري حين يصبحن زوجات بسبب ضعف أزواجهن من سلاطين الترك، يتدخلن في شؤون الحكم، وبعضهن كن يحَكُمْن الدولة العثمانية في الحقيقة.
ولعل البعض يظن أن هذا جاء في عصر تدهور الدولة العثمانية، لكن الحقيقة أن ذلك بدأ مبكرًا، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن ظاهرة حكم “الحريم” للدولة العثمانية بدأ مع السلطان سليم الأول (1512-1520) ميلادي، فكما كان هو ديكتاتورًا وسفاحًا، كانت والدته السلطانة عائشة هي حاكمة قصر الحكم الأولى باعتبارها والدة السلطان، وهي أول من تولت هذا المنصب، ولعبت أدوارًا مهمة في عهد حكم ابنها حتى وفاتها، ولعل أبرز ما تميزت به السلطانة عائشة أنها أخمدت صراع زوجات سليم الأول، وهو صراع كان يمكن أن يؤدي إلى اغتيال السلطان نفسه من أجل أن تضمن كل زوجة أن يكون ابنها وليًّا للعهد، وهو أمر شائع منذ تأسيس الدولة العثمانية، وكم من أشقاء قُتلوا دون ذنب بأيدي أشقائهم أو أبنائهم.
السلطانة عائشة والدة سليم الأول أول جارية تدخلت في شؤون الحكم.
أما سليمان القانوني الذي حكم في (1520-1566) ميلادي، أشيع عنه أنه أكثر سلاطين الترك صرامة وقوة، إذ تكشف الروايات التاريخية أن معظم القرارات التي اتخذها كانت وراءها روكسلانة، وهي جارية ذات أصول أوكرانية-أرمينية اسمها الأصلي “إلكسندرا إليوفيسكا”، وتنتمي لأب مسيحي، أُسِرت في سن الرابعة عشر، وبيعت في سوق النخاسة للتجار العثمانيين حتى وصلت إلى قصر الحكم، وهناك استطاعت أن تَسْلِبَ عقل سليمان القانوني الذي هام بها حبًّا، وخَرَّ أمام جمالها فترك حملات جيشه العسكرية وجلس يكتب بجوارها قصائد الشعر.
وتمكّنت روكسلانة من إنجاب أبناء سليمان القانوني (عبد الله، سليم، بايزيد) لتصبح زوجة السلطان ووالدة السلطان المقبل، لكن لم يقتصر دور روكسلانة عند هذا الحد، فلتأمين وصول أبنائها للعرش بدأت في لعب الأدوار السياسية لتكون السيدة الأولى في هذا المضمار، ولم تكن الأدوار شريفة بل اعتمدت على القتل والدسائس كعادة آل عثمان، ونجحت روكسلانة في تحريض سليمان القانوني على قتل صدره الأعظم إبراهيم باشا الذي كان معترضًا على تدخل زوجة السلطان في كل شيء.
وقع سليمان القانوني في غرام الأوروبية روكسلانة فحَرَّضته على قتل ابنه.
كما نجحت روكسلانة في تحريض سليمان القانوني حتى أقدم على تصفية ابنه مصطفى من زوجته “ماهي دوران جلهار سلطان”، وهو ما أدى إلى وصف المؤرخ العثماني منجم باشي في كتابه “جامع الدول” إلى القول بأن روكسلانة كانت منشأ مكر النساء في قصور الحكم، فتمكنت من إزالة مصطفى بن سليمان القانوني في عام 1553 ميلادي، وقد أحدثت تلك الواقعة حزنًا عامًّا بين جنود الإنكشارية، ولم يسلم السلطان سليمان القانوني من الانتقاد.
توضح المصادر التاريخية أن ما فعلته روكسلانة لم يكن فريدًا من نوعه، بل يمكن القول بأنها بدأت عقيدة سياسية صارت لدى سلاطين الترك بعد ذلك، ولم يكن سليم الثاني (1566-1574) ميلادي، ابن سليمان القانوني بأفضل من أبيه، فعلى الفَور بعدما تولى سليم الثاني الحكم وقع في غرام نوربانو، وهي جارية من أصول بندقية ولدت في جزيرة باروس بالبحر الأبيض المتوسط، واسمها الحقيقي “سيسيليا”، دخلت قصور بني عثمان وهي في الحادية عشر من عمرها ووقع في غرامها الأمير سليم الثاني فأنجبت له الأمير مراد، وبذلك ارتقت إلى مرتبة “خاصكي” أي والدة الأمير.
يطلق المؤرخون على فترة سليم الثاني عصر سلطنة الحريم بسبب الجارية نوربانو.
وبمجرد أن أصبح سليم الثاني سلطان الدولة العثمانية أصبحت نوربانو هي المتحكمة الأساسية في العرش، وسيزول العجب حينما نعرف أن سليم الثاني أول سلطان عثماني يجلس في قصوره ويترك أمر الرعية وتأمين حدود بلاده، وهو ما دفع نوربانو إلى لعب دور أكبر فباتت هي المتحكمة في تعيينات القادة والصدر الأعظم، وأقامت تحالفات مع بعض آغاوات الحرملك.
وبتولي مراد الثالث الحكم (1574-1595) ميلادي، زاد تدخل نوربانو في شؤون الحكم بطريقة دفعت المؤرخين إلى تسمية فترة مراد الثالث بسلطنة النساء والحاشية، إذ انتقلت السلطة الحقيقية إلى الحرملك وتركزت في يد نوربانو.
ولم يسحب عرش السلطانة نوربانو إلا الجارية صوفيا بيلوجي التي وقع في غرامها مراد الثالث فأنجبت له ابنهما السلطان محمد، وبتلك الطريقة أصبحت تلك الجارية هي السلطانة صفية زوجة السلطان وأم ولي عهد.
لكن لم يكن الطريق ممهدًا لصفية سلطان إذ إن والدة مراد الثالث نوربانو، كانت هي الأخرى ما تزال حاكمة لقصور الحكم، فأغرت ابنها بجواري أخريات لإبعاده عن صفية؛ لكن السلطان مراد الثالث لم يستطع إذ وقع في غرام صفية.
وبين الزوجة وأم السلطان دارت معارك كثيرة سرية في قصر الحكم أثناء تولى مراد الثالث، لكن تمكنت صفية بتحالفات كثيرة مع آغاوات الحرملك أن تحسم الصراع لصالحها، ومهدت الطريق إلى تولى ابنها الحكم، فأثناء وجود مراد الثالث على فراش الموت أمرت صفية بقتل كافة أبنائه، الذين بلغ عددهم 18 ابنا ليُطلق عليها بعد ذلك السفاحة.
استمر دور صفية سلطان بعد ذلك أثناء عهد ابنها محمد الثالث (1595-1603) ميلادي، بل تضخم لتصبح مسؤولة عن تعيينات الوزراء والولاة، ولم يُحِد من سلطانها إلا وفاة ابنها محمد الثالث عام 1603 ميلادي.
امرأة تحكمت في ثلاثة سلاطين من الترك وخلال ما يقرب من أربعة عقود، هذا ما أدت إليه سياسة الدولة العثمانية التي ترك قادتها الأمر في يد الجواري، وهذا ما انطبق على كَوسَم سلطان زوجة السلطان أحمد الأول (1603-1617) ميلادي، التي شاركت في كل شؤون الحكم خلال فترة زوجها وباتت أشهر سيدات الدولة العثمانية بسبب استمرار دورها وتعيينها القادة، والتحكم في حركة الترقيات خلال عهد ابنها مراد الرابع (1623-1640) ميلادي، ثم من خلال حفيدها محمد الرابع (1648-1687) ميلادي.
تلك السياسة العثمانية التي تركوا فيها الأمر للجواري، كان لها أثرها المباشر على المسلمين وأحوال الرعية خلال عهد سلاطين الترك، فكما توضح المصادر التاريخية أنه في خلال الفترة الواقعة بين وفاة السلطان سليمان القانوني وتولية السلطان مصطفى الرابع العرش عام 1907 ميلادي، حكم ثمانية عشر سلطانا، وهو عدد كبير تسببت فيه صراعات الحكم التي قادتها الجواري، وأدت إلى قتل عدد كبير من بني عثمان.
كما أنه بسبب تحكّم الجواري في عرش الدولة العثمانية ظهر الفساد في الحكم، وزاد من وتيرته تحالفات بعض النسوة مع رجال في القصر، ولذلك لم يكن من الغريب أن الفترات التي شهدت بروز السيدات في الحكم كانت هي الفترات التي شهدت ضعف الدولة العثمانية، وزيادة النزعات الاستقلالية عنها بالإضافة إلى عدوان الدول الأجنبية الغربية عليها.
وفي النهاية لم يدفع ثمن ذلك إلا الأهالي الذين عانوا الفقر والجوع وعدم تأمين بلادهم، بسبب سلاطين جلسوا في قصورهم وتركوا الحكم لعبة بيد الجواري.
تعاظُم دور الجاريات كان أبرز أسباب ضعف الدولة العثمانية وعدوان الغرب لها.
- إلبر أورطايلي، العثمانية آخر الإمبراطوريات، ترجمة: عبد القادر عبد اللي(بيروت : الدار العربية للعلوم ناشرون2015م).
- خليل إيناجليك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط ( بيروت : دار المدار الإسلامي، 2002م).
- عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة، (الدار البيضاء: اتصالات سبو،2008م).
- فريدون أمجان، سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين حقائق في ضوء المصادر، ترجمة: جمال وفاروق وآخر (القاهرة: دار النيل للنشر والتوزيع، 2014م).
- محمد أحمد الثقفي، زواج السلاطين العثمانيين من الأجنبيات وأثره على إضعاف الدولة (مكة المكرمة: رسالة ماجستير، قسم الدراسات التاريخية والحضارية العليا، جامعة أم القرى، 2012م).
- محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 2008م).
- منجم باشي أحمد دهده، جامع الدول، تحقيق: غسان علي الرمال، (مكة المكرمة: رسالة دكتوراه، قسم الدراسات التاريخية والحضارية العليا، جامعة أم القرى، 1997م).
- إسماعيل أحمد: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث. مكتبة العبيكان. ص93-94.
- كمال الدين إحسان: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة (صالح سعداوي). ج1. 1999.
- لويس، برنارد: استانبول وحضارة الخلافة الإسلامية. (سيد رضوان علي). (1982). ط2. الدار السعودية للنشر والتوزيع. ص 105.