من خراسان إلى بلاط الدولة العباسية

البرامكة أقصوا العرب من مفاصل الدولة ومَكَّنوا الفرس

يظل البرامكة استثناءً في التاريخ العباسي باعتبارهم أسرة فارسية لها تأثيرها العميق في بنية الدولة، إذ إنها مرت بالتسلط على الحكم العباسي ومضت، إلا أن العنوان الأبرز في تجربة البرامكة أنهم كانوا نتيجة فعل فارسي دؤوب بدأ منذ وقت مبكر، ونشط في التغلغل منذ سقوط الدولة الأموية، إذ لم تكن دولة بني أميَّة مفضلة للفرس الذين وجدوا فيها امتدادًا للدولة العربية التي أسقطت مملكتهم الساسانية، فصاروا يمثلون حركة مناهضة للأمويين، ووجدوا في ذلك فرصةً للتقرب بها إلى العباسيين، والعمل معهم للإطاحة بالحكم الأموي، ثم اختراق الدولة الجديدة والحكم من خلالها، ومن هنا استطاع البرامكة الفرس اختراق منظومة الحكم العباسية، ونشر ألاعيبهم السياسية في القصر، وتعميق الخلافات بين الولاة وولاة العهد، وتقريب العنصر الفارسي وإبعاد العربي المخلص.

استحوذ البرامكة على السُّلَّم الوحيد للصعود إلى المجد والمال والمناصب والنفوذ، فلم يعد أمام العرب من وسيلة للتطور والتقدم في سلم الدولة العباسية إلا من خلال البرامكة، وتملقهم، والتقرب منهم، والخضوع لسلطتهم.

ولم تكن أعمال البرامكة داخل الدولة العباسية مستثناة من المناخ الشعوبي الذي سيطر على مفاصل الدولة وثقافتها، بل كانت معظم أعمالهم وممارساتهم تنسجم مع توجهات الشعوبية المضادة للعروبة، بل ترسخ الكراهية، ولعل من أبرز أعمالهم في هذا الجانب إحياء الثقافة الأعجمية، والتغني بالتاريخ والأدب الفارسي،  وتشجيع ترجمة الأعمال الفارسية إلى اللغة العربية، واحتضان المترجمين والكتاب ذوي المیول الشعوبية من الفرس خاصة، لإعلاء شأن الحضارة الفارسية، وفي الوقت نفسه العمل للحط من مكانة العرب ودورهم وثقافتهم بتأليف الكتب في ذمهم والسخرية من عاداتهم وتقاليدهم.

وفي سبيل الترويح احتضن البرامكة الشعراء من ذوي النزعة الشعوبية؛ ليقوموا بدور الدعاية لهم ولثقافتهم بين الناس، كما عملوا جاهدين لزعزعة مفاهيم العقيدة الإسلامية تحت شعار حرية الرأي، ومجالس الشرب والمؤانسة، وتقريب عناصر متهمة بالزندقة والإلحاد، كذلك القيام بنشاطات سرية ذات طابع عرقي من خلال مجالس لا يدخلها سوى الفرس، فضلاً عن تفضيل الفرس لاستلام الوظائف المهمة في الدولة، وظهور دعمهم للعقيدة المجوسية، مما جعل أصابع الاتهام توجه إليهم بالزندقة.

بدأ التخطيط البرمكي مبكرًا لاختراق الحكم العباسي، فخالد بـن برمـك أرسـى قواعـد العلاقـة مـع العباسيين ووطـدها بعدما انضـم إلـى الـدعوة العباسية ضـد الدولـة الأموية، وبعـد إعـلان قيام الدولـة العباسية بـدأت أسـرة البرامكـة تضـع أولـى خطواتهـا نحـو السلطة والنفوذ، إذ برز اسم خالد بن برمك منذ اليوم الأول لبيعة أبي العباس السـفاح بالخلافـة، وقـد نـال بدهائه ولباقته الحظـوة عنده فَقَلَّـده الوظـائف المهمـة فـي الدولـة، حتـى أُسـند إليه منصـب الوزارة بعد إزاحة أبي سلمة الخلال.

لا يمكن لحركة سياسية سرية مثل الحركة البرمكية أن تقوم وتزداد سلطتها ونفوذها بدون سلطة المال، ولذلك سخَّروا أموال الدولة لخدمة أغراضهم والإنفاق بسخاء على أتباعهم دون مراعاة مصالح الدولة وعامة الناس وحقوقهم، كما عملوا على إضعاف وحدة الدولة العباسية بإحداث الخلاف والشقاق بين أبناء الخليفة خدمة لمصالحهم العرقية.

عمل البرامكة جاهدين لإقصاء العرب من قصور الخلفاء، واتهامهم بالتخاذل في أعمالهم، والتشكيك في ولائهم عند الخليفة ليصفو لهم العبث، وشمل ذلك كل من يشكون في خطره عليهم من القادة والمفكرين العرب، أي كل من لا يخدم أجندتهم ويشكل خطرًا على مكانتهم في قلب الدولة العباسية.

لعبوا دور القوي الأمين زورًا، وتسللوا إلى القصور وسيطروا على أبناء الخلفاء.

ومن أبرز المناوئين للبرامكة محمد بن الليث، الذي اشتهر بعدم ميله للعجم والفرس، لذا كرهه البرامكة وتآمروا عليه، فضلا عن سعيهم لدى هارون الرشيد للإيقاع بالقائد العسكري يزيد بن مزيد الشيباني صاحب الإنجازات الكبرى، الذي علا صيته في الدولة العباسية بسبب شجاعته وإنجازاته، واتهموه بالتراخي في قتال الخوارج.

ولم تكن خطط البرامكة لتكتمل إلا بالتسلل إلى مفاصل الدولة، ومن ثم اختطافها بالاقتراب من الخليفة وأبنائه، والالتصاق بالمرشح للخلافة فيما بعد، ليصبحوا عيونه وأذنيه ويديه، حتى إذا ما تمكنوا أقصوا العرب ووسَّعوا نفوذ الفرس، وحوَّلوا الدولة إلى فارسية بعنوان عربي.

وبعد وفاة الخليفة أبي جعفر المنصور؛ اتسع نفوذ البرامكة وازداد الاعتماد عليهم، ففي عام (١٦١هـ) أمر المهدي بأن يتولى يحيى بن خالد أمور ابنه هارون بدلاً عن وزيره أبان بن صدقة، فكانـت فرصـة لامـتلاك عاطفـة الأمير الصغير وعقـله لا سـیما أنـه ارتـبط معهـم بـأخوة الرضـاعة، والأهـم مـن ذلـك الإشراف علـى إعـداده لمنصـب الخلافـة مسـتقبلاً؛ ضـمانًا لاستمرار نفوذهم وسيطرتهم.

  1. أحمد أمين، هارون الرشيد (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014).
  2. صالح رمضان، “النهج الشعوبي لدى البرامكة”، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، جامعة الموصل، ع.4 (2010).
  3. قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985م).
  4. علي العمرو، أثر الفرس السياسي في العصر العباسي الأول (القاهرة: مطبعة الدجوي، 1979).
  5. محمد برانق، البرامكة في ظلال الخلفاء (القاهرة: دار المعارف، د.ت).