عروبة الخليج،

حقائق التاريــخ

يتذكر جيلنا جيدًا الدروس المدرسية في التاريخ والجغرافيا والحديث عن الوطن العربي الذي يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. وعندما شب جيلنا، ودخل ميدان العمل العام فوجئنا بالدعاوى الإيرانية حول “فرسنة” الخليج، ونفي صفة العروبة عنه، والإصرار على أنه “الخليج الفارسي”.

وازدادت تلك الحملة الإيرانية صخبًا وعنفًا مع وصول الخميني إلى الحكم، وراحت أجهزة الدعاية الإيرانية تروِّج كذبًا أسطورة “أن الخليج خليج فارسي” عبر العصور التاريخية المختلفة. كما أدعت أيضًا أن ظهور مصطلح “الخليج العربي” يعود إلى حقبة الستينات فحسب، وظهور نظام عبد الناصر، وأن النظام البعثي في العراق تبنى بعد ذلك هذا المصطلح!

وتنفي حقائق التاريخ كل هذه الادعاءات والمزاعم الإيرانية، بل تؤكد عروبة الخليج؛ إذ دأبت المصادر التاريخية على وصف الخليج بأسماء عربية، وأحيانًا كان يُشار إلى الخليج باسم “بحر البصرة” نسبةً إلى ميناء في شمال الخليج، وأحيانًا أخرى يُشار إليه باسم “بحر القطيف” نسبةً إلى ميناء القطيف المطل على الساحل الغربي للخليج، في شرق الجزيرة العربية، كما أشارت بعض المصادر التاريخية الأخرى إلى الخليج على أنه “بحر البحرين” نسبةً إلى جزيرة البحرين العربية الواقعة في قلب الخليج. وحتى إذا رجعنا إلى المصادر العثمانية التركية، في الفترة التي كانت الدولة العثمانية تحكم فيها معظم أجزاء العالم العربي، سنجد هذه المصادر تشير إلى الخليج بمصطلح “خليج البصرة” ولا تشير إليه أبدًا على أنه “الخليج الفارسي”.

والحق أن التيار القومي الإيراني المتطرف قد صنع من مسألة مسمى الخليج، إحدى الأساطير المؤسسة للقومية الفارسية. وتجلى ذلك واضحًا منذ وصول رضا شاه بهلوي إلى حكم إيران في عام 1926م، ولعل تتجلى أهم مظاهر ذلك في تخصيص يومٍ في التقويم الإيراني الرسمي يحمل اسم “يوم خليج فارسي”! والغريب أن إيران لم تفعل الشيء نفسه مع البحار الأخرى التي تطل عليها، بل الأدهى من ذلك أن إيران تطل على بحر قزوين، هذا البحر الذي يُعرف بهذا الاسم في كل الأطالس الجغرافية العالمية، بينما الاسم الرسمي لهذا البحر في إيران هو “بحر خزر”، ولم تجرؤ إيران على المطالبة بتغيير اسم بحر قزوين واستبداله بالاسم الفارسي “بحر خزر”، بينما تتبجح بشدة في مسألة رفض عروبة الخليج رغم أن ثلثي سواحل الخليج تقع في بلدان عربية، وحتى السواحل الإيرانية المطلة على الخليج يقطنها في حقيقة الأمر سكان من أصول عربية، سواء في منطقة الأحواز أو في إقليم بوشهر.

وتتمسك إيران بمسمى الخليج الفارسي، ليس فقط لأسباب أيديولوجية قومية، ولكن أيضًا لأن هذا المسمى يشكل غطاءً للأطماع الإيرانية في المنطقة، وقد وضح ذلك تمامًا في عهد الشاه محمد رضا بهلوي عندما ازداد تمسكه بمصطلح “الخليج الفارسي”. وقامت أمريكا بدعم هذا الاتجاه في ذلك الوقت، في ظل ظروف الحرب الباردة، والصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وفي الحقيقة أرادت أمريكا بذلك أن تلعب إيران دور “شرطي الخليج” لصالحها في المنطقة. وأتاح ذلك الموقف عربدة شاه إيران في منطقة الخليج، واستيلائه على ثلاث جزر إماراتية في منطقة مضيق هرمز وضمها إلى إيران. كما تصاعدت الدعايات الإيرانية حول “فرسنة” جزيرة البحرين، ونفي العروبة عنها، والمطالبة بضمها إلى إيران. ولم تتوقف هذه الدعايات مع وصول الخميني إلى الحكم، بل زادت، وتعاظم شأن التدخل الإيراني في شؤون البحرين.

لكن الموقف الأمريكي من مسألة مسمى الخليج، والهيمنة الإيرانية على الخليج سيتغير لا سيما مع وصول الإسلاميين إلى الحكم في إيران، والصدام مع نظام الخميني. ولعل التطور الكبير في السياسة الأمريكية تجاه هذا الشأن جاء في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب؛ إذ استخدم وزير الخارجية الأمريكي آنذاك مصطلح “الخليج العربي” في أحاديثه الصحفية. وهنا خرج وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في 31 يوليو 2019 معترضًا على ذلك، ومطالبًا ترامب ووزير خارجيته بتفسير لما اعتبره: “تحريفًا للاسم التاريخي للخليج الفارسي” على حد وصفه.

ولم تقتصر المواجهة الإيرانية على محاولة تأكيد عروبة الخليج على الجانب السياسي فقط، وإنما امتدت إلى المؤسسات العلمية والإعلامية؛ إذ انتقدت إيران بشدة شركة جوجل بسبب حذفها مصطلح “الفارسي” باعتباره مسمىً للخليج، وأعلنت إيران -رسميًّا- رفضها لذلك الأمر الذي وصفته بـ”التجاوز المسيء” وتعالت الأصوات في إيران بمقاطعة جوجل.

وفي عام 2004 قامت ناشيونال جيوجرافيك بإصدار طبعة جديدة من أطلسها، وتضمنت هذه الطبعة مصطلح “الخليج العربي”، واعترضت إيران بشدة على هذه الخطوة، وطالبت ناشيونال جيوجرافيك بتعديل ذلك إلى “الخليج الفارسي”. لكن الشركة قامت بتعديل ذي طابع وسطي؛ إذ أشارت إلى الخليج بأنه “يعرف بالخليج الفارسي وهناك من يراه العربي”!

وتدل كل هذه الشواهد السابقة على عروبة الخليج عبر التاريخ، وعلى عنصرية الادعاءات الإيرانية في هذا الشأن، في محاولة منها لتأكيد الأطماع الفارسية في المنطقة.