لذلك لم يُعر رسائل فخري اهتمامًا... وأبدى استياءه من جرائمه

كشف المؤسس سياسة العثمانيين التي تقتات على نزاع القوى المحلية خلال الحرب العالمية الأولى

دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب حليفتها ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا، وترتب على ذلك انتقال دوائر الصراع والمواجهة إلى المنطقة العربية؛ نتيجة التنافس الدولي على المنطقة، والشعور بقرب زوال الدولة العثمانية، ومن ثم ازدياد الأطماع في تركتها.

وجد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود نفسه في موقف اتخاذ القرار الحاسم؛ فالقوى الدولية تتمدد بالقرب، ومن ضمنها الدولة العثمانية، وبناءً عليه فإن أي موقف سيتخذه بالانحياز لأي أطراف الحرب سيؤثر حتمًا على موقف حدوده ودولته التي كانت في مرحلة التوحيد الوطني للجزيرة العربية، خاصةً أن بريطانيا باتت على مقربة من الحدود السعودية بسيطرتها على بعض الخليج العربي. لذلك التزم الملك عبد العزيز سياسة الحياد، وعدم المغامرة بشكل مباشر في الحرب لأيِّ طرفٍ من أطراف الحرب.

الموقف الذي اتخذه المؤسس يصعب على غيره تطبيقه حتى لو أراد التزام الحياد، لا سيما أن أطراف الحرب كانت تسعى لجذب القوى السياسية القريبة منها بالضغط المتواصل، غير أن الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه) كان رجلاً استثنائيًّا في زمنٍ استثنائي، استطاع أن يقود الدِّفة بكل اقتدار، وفي الوقت نفسه استطاع استكمال توحيد أرجاء الوطن، وحمى حدوده بسياسة منع تدخلات الأطراف الدولية المتصارعة خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بل بتطهير أرضه من الدولة العثمانية، إحدى أطراف الحرب، وهنا حرر الأرض في الوقت الذي استُعمرت فيه أراضٍ أخرى قريبة.

حكومة الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية كانت تسعى إلى إحكام قبضتها على الأراضي العربية والحفاظ على استعمارها، لا سيما في الجزيرة العربية التي كانت تمثل الدعاية السياسية لها بالحرمين الشريفين لدعم موقفهم في العالم الإسلامي، وأيضًا قطع طريق البحر الأحمر في وجه بريطانيا، هذا الطريق المهم المؤدي إلى الهند درة التاج البريطاني. من هنا عملت الدولة العثمانية على إرسال حملة عسكرية تركية إلى سيناء لكي تصل إلى قناة السويس لتحتلها وتقطع الطرق البحرية على إنجلترا. ومن ناحية أخرى قامت بتعيين أحد أهم وأشرس القادة العسكريين “فخري باشا” حاكمًا على المدينة المنورة ومسؤولاً عن بسط النفوذ العثماني في شبه الجزيرة العربية.

دارت المراسلات بين فخري باشا والملك عبد العزيز من أجل توريط الملك عبدالعزيز في الحرب الدائرة، غير أن المؤسس حافظ على حياده ولم يرد إدخال بلاده في أتون الحرب الدائرة. ومن ناحية أخرى فإن المؤسس لا يثق في رجال الاتحاد والترقي ولا في دولتهم العثمانية التركية التي لا تحتفظ الذاكرة العربية لها إلا بصورة القهر والظلم والبطش واستنزاف القدرات العربية، لا سيما أن المؤسس كان يعي جيدًا حينها أن العثمانيين في الوقت الذي يحاولون فيه جرَّه إلى حربهم الخاسرة كانوا يدعمون خصومه في الجزيرة العربية بنحوٍ مباشر، ويعملون على التحريض ضده، لإضعافه من جهة، ولدفعه إلى طلب تدخلهم، والانضواء تحت جناحهم من جهةٍ أخرى؛ لذلك لم يستجب الملك عبدالعزيز للمراسلات العثمانية، ولا لضغوطها من خلال دعم الخصوم.

الملك عبدالعزيز كان أكثر إدراكًا استراتيجيًّا للتوازن السياسي من دولة الترك التي عمَّرت ستة قرون من البطش والاستعمار.

عندما ضُيِّق الخِناق على فخري باشا في المدينة المنورة طلب المساعدة من الملك عبدالعزيز مستغلاً الصراع الدائر بين القوى المحلية، غير أن المؤسس التزم الحياد لوعيه التام بأن السياسة العثمانية تقتات على توازن القوى المحلية في الوقت التي كانت تتلاشى فيه وتضمحل، لا سيما بعد الضربات التي تلقوها من الملك عبدالعزيز في نجد والأحساء. كما أن المؤسس كان منشغلاً في جبهات عدَّة في مرحلة التوحيد، ويعمل على توازن دولي يمر بمنعطف مهم من تاريخ المنطقة، وإلا فإن فخري باشا وما فعله بالمدينة لم يكن مقبولاً من السعوديين لما يفعله بجزءٍ مهم وغالٍ من وطنهم، لذلك لو قدر لفخري البقاء لفترة أطول لاقتلعته القوة السعودية كما فعلت مع جميع الذين حاولوا التعدي على حدود الوطن. كما أن الملك عبدالعزيز كان مستاءً وغاضبًا من جرائم فخري باشا في المدينة المنورة.

وبحسب المصادر التاريخية فإن الملك عبدالعزيز كان على معرفةٍ بمرامي فخري وحكومته، لذلك تحاشى الاستجابة لرسائله؛ لأن المؤسس هدفه المقبل استرداد الحجاز ضمن توحيد الأرض السعودية، ولم يكن ذلك ببعيد عن نهاية الحرب العالمية الأولى سنة (1918)، إذ استسلمت الحامية العثمانية في المدينة المنورة وجلت عنها بعدها، حيث استُردت المدينة النبوية لوطنها السعودي سنة (1925).

  1. أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط 5 (الرياض: منشورات الفاخرية، 1981).

 

  1. تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).

 

  1. حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935م).

 

  1. خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985م).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).

 

  1. عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1995م).