تمرد على القوانين وأحبته جارية السلطان المفضلة

نديم آغا..

عاشق زلزل عرش عبد الحميد الثاني

كيف يمكن أن تُقنع رجالاً لم يعرفوا في حياتهم أي مشاعر إنسانية بالحب، بل كيف تُقنع قتلة امتهنوا هتك الأعراض ونشر الفسق والفجور، أن الإنسان لم يُخلق للشهوة فحسب؛ بل هو قلب يشعر، وعقل يفكر، وإرادة تتمرد على كافة القوانين. 

بالطبع لم يتمكن أحد من أن يُقنع سلاطين العثمانيين بأي شيء من ذلك، فمنذ اللحظة الأولى لحكمهم، شرعنوا قوانين الاستعباد، فاتخذوا لأنفسهم آلاف الجواري وحبسوهن في أماكن بعينها في القصور السلطانية، أطلق عليها “الحرملك” أما من يقوم على خدمة هؤلاء النسوة، رجال جرى إخصاؤهم خصيصًا لهذا الغرض، في أبشع جريمة عرفتها البشرية ونهى عنها الدين الإسلامي.

وظنّ سلاطين العثمانيين أنهم بتلك القوانين الظالمة والجرائم البشعة، يستطيعون امتلاك الجميع؛ لكن لأن الإنسان ليس مجرد شهوة، وأنه لا يمكن لأي ظالم مهما بلغ من جبروت أن يمتلك القلوب، جرت وقائع عشق كثيرة بين “آغاوات الحرملك” وهو لقب الرجال الذين يُخْصَوْنَ للخدمة في “الحرملك” وبين جواري سلاطين العثمانيين، بعض تلك القصص ظلت طي الكتمان ضمن أسرار القصور العثمانية، لكن بعضها كُشف وعُرفت تفاصيله كما حدث في قصة “نديم آغا” وحبيبته “زبرجد”.

تعود القصة لطفل صغير ضمن ملايين الأطفال الذين ولدوا في عهد الدولة العثمانية فلم يجدوا سوى الجوع والقهر، فلا تعليم ولا حياة كريمة للمواطنين، وسرعان ما أوقعه حظه البائس في يد سماسرة سلاطين العثمانيين الباحثين عن أطفال يصلحون للخدمة في الحرملك وبالطبع يخضعون قبل ذلك إلى الإخصاء.

دخل الطفل نديم آغا إلى القصور العثمانية وقت حكم السلطان عبد الحميد الثاني فترة (1876- 1909) ميلادي، وبسبب إخلاص نديم آغا وتفانيه في خدمة مولاه، قرّبه السلطان عبد الحميد الثاني منه وخصّه بعنايته، فأصبح لنديم آغا شأنٌ في أروقة القصور العثمانية.

وبلغ نديم آغا مكانة تُعد عظيمة في قوانين القصور العثمانية، حين أصبح مسؤولًا عن دعوة الجارية التي يقع عليها اختيار السلطان العثماني لقضاء الليلة معها، وكان نديم آغا يؤدي تلك المهمة على أكمل وجه غير مكترث بدلال الجواري ومداعبتهم له بكل أريحية لأنه تعرض للإخصاء فلا ضرر منه. 

ومن جهة أخرى كانت هناك فتاة فاتنة سوداء تُسمى “زبرجد” أتى بها تاجر الرقيق عثمان بك الكردي وبلغ ثمنها 100 قطعة ذهبية، ولم يكن يبلغ ثمن الجواري في ذلك الوقت هذا الثمن الباهظ، لكن زبرجد تمتعت بجسد متناسق ولمعان في عينيها ذلك جعلها تستحق المبلغ الكبير، وعندما رآها السلطان عبد الحميد الثاني انبهر بها وأمر آغاوات الحرملك أن يعطوها مكانة مميزة.

وقع عبد الحميد الثاني في غرام الجارية زبرجد ومنحها مكانة خاصة بين نساء الحرملك.

توضح الروايات التاريخية أن أول لقاء في قصة العشق التي زلزلت قصر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، كان في إحدى ليالي شتاء عام 1897، فأثناء تأدية نديم آغا، لعمله اليومي من جلب الجواري للسلطان العثماني، وجد تلك الجارية التي يشترك معها في لون البشرة السمراء، وسرعان ما أخذه جمالها وتلك العناية التي تحظى بها في الحرملك، وكان أول شعور يولد في قلب نديم آغا هو الفخر بتلك الفتاة السوداء التي تفوقت على حريم السلطان من بيض وشقر. 

وبسبب هذا الفخر سارع نديم آغا في خدمتها، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، دون أن يدور في خلد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فصحيح أنه أخصى نديم آغا وأفقده قدرته الجنسية، لكنه لم يفقده قلبه ومشاعره الإنسانية فأحب زبرجد وقابلته الفتاة بالمثل، فالحب لا يعترف بشيء اسمه سادة وعبيد أو ضعيف وقوي.

آنذاك، روت زبرجد لنديم آغا كيف أن النخاسين المجرمين أغاروا على قريتها في زنجبار وأخذوها لتباع في أسواق النخاسة التي روّج لها سلاطين العثمانيين بصورة كبيرة، ضمن سياسة استرقاق الناس. 

تطورت العلاقة بين العاشقين وزاد من قوتها هذا القهر والجوع الذي عاشه العاشقان في طفولتهما، كما وجدت فيه زبرجد رفيقًا لرحلة البؤس والشقاء.

جمع بين زبرجد ونديم آغا الفقر والجوع وكراهية العبودية للسلاطين العثمانيين.

ولكن لا شيء يعكر صفو الناس سوى الظلم، خاصة إذا ما كان الظلم من أناس كالسلاطين العثمانيين الذين تفننوا فيه وجعلوا أشكاله متعددة، ففي يوم حزين طلب السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، من نديم آغا أن يجلب له زبرجد لقضاء ليلة معها وأمره أن تخضع الجارية للطقوس السلطانية من اغتسال وارتداء أثواب بعينها يختارها السلطان العثماني. 

فجأة وجد العاشق نفسه مطالبًا أن يقدم محبوبته هدية إلى وحش لا يهمه سوى التهام لحوم النساء، والأمرّ من ذلك أنه لا يستطيع الرفض وإلا انكشف أمرهمها وقُتلا كما هي القوانين العثمانية التي لا تعطي لحياة الإنسان أي قيمة، أو يقبل بذلك ويعيش بشعور مخزي يميته كل يوم وهو يتصور حبيبته في سرير عبد الحميد الثاني.

بتلك الحالة التي هي أقرب إلى الهذيان التقى حبيبته، أخبرها الخبر وارتمى في حضنها يبكي بكاءً شديدًا، وأدركت زبرجد أنها قد تقضي على حبيبها فتماسكت في موقف نادر وحاولت أن تُهدئ من روعه وتُذكره بأن تلك مهمتها في الحرملك وأنهما لا يملكان الرفض، لكن نديم آغا انتفضت فيه الرجولة التي ليس لها علاقة بالإخصاء كما يظن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، ورفض أن يُسلم حبيبته بتلك الطريقة الذليلة قائلًا: “لن تذهبي إليه، يمكنه أن يسجنني أو يجلدني أو أن يلقي بي في الماء إلى حيتان مضيق البوسفور الماضي كي أموت؛ لكن لن أتخيلك في أحضان رجل آخر يعبث بجسدك”.

لكن حالة الهيجان التي سيطرت على نديم آغا لم تنتقل إلى زبرجد التي حاولت أن تجعله يعدل عن رأيه؛ لأن المصير هو الموت، وأثناء النقاش والجدل العنيف علا صوتهما وأتت باقي الحريم وأحد آغاوات الحرملك، زميل نديم آغا في عمله، وانكشفت قصة الحب تلك بين العاشقين، فأسرع زميل نديم آغا لإخبار السلطان بكل شيء.

لكن زبرجد لمحت زميل نديم آغام وهو يتحرك فهرولت إليه لتمنعه من الخروج وإخبار السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وفي تلك اللحظة اعتقد نديم آغا أن زبرجد تحاول الهروب منه فتناول مسدسًا وأطلق رصاصة استقرت في جسد زميله الآغا فسقط قتيلًا وارتفع الصياح والصراخ.

طال انتظار السلطان عبد الحميد الثاني للفتاة زبرجد، فكما هي عادته لقد ارتدى ثوبًا أبيض وجلس في سريره يصغى إلى جواسيسه وهم يخبروه بكل شيء دار في القصر، ومن حين لآخر يستنشق بعض المنبهات، وفي وسط ذلك كله فوجئ بانفتاح باب غرفة نومه بشدة ويقف على سريره نديم أغا وهو ممسك مسدسًا ويقول صائحًا: “اؤمرهم بقتلي يا مولاي”.

ارتعد عبد الحميد الثاني حين رأى نديم آغا يدخل عليه وفرّ إلى أبواب سرية للهروب.

لكن ما سيطر على عبد الحميد الثاني في تلك اللحظة هو الفزع من هذا الرجل الذي يمسك مسدسًا ويقف على حافة سريره، فضغط على زر خلف سريره فانفتح باب سري خرج منه سريعًا مرتعشًا وهاربًا من نديم آغا. 

وكما كان عنوان قصة العاشقين في البداية هو البؤس والقهر، كانت النهاية أكثر بؤسًا وقهرًا، فنديم آغا قتل وشنق في أحد الميادين العامة، أما زبرجد وجدوها قد شنقت نفسها ولحقت بحبيبها إلى العالم الآخر، هاربة من سلطان عثماني لا يُدرك أن للبشر قلوبًا وحياةً لا يحق لأحد أن يمتلكها سوى الخالق.

أمر عبد الحميد الثاني بشنق نديم آغا في ميدان عام وانتحرت زبرجد لتلحق بحبيبها.

1. حبيب جاماتي “بين جدران القصور”، الدار القومية للطباعة والنشر، تاريخ النشر 1963م، القاهرة. 

2. حبيب جاماتي “”خفايا القصور: تاريخ ما أهمله التاريخ”، نور حوران للدراسات والنشر والترجمة 2009م.