كان أُنموذجًا للبطش والإبادة
العثماني حسين بك سفَّاح "مذبحة الحظيرة"
لم يكن سقوط الدرعية، ومعها الدولة السعودية الأولى، إيذانًا بنهاية مسلسل البطش والتنكيل الذي مارسه العثمانيون في حق المسلمين في الجزيرة العربية بشكل عام، والدرعية بشكل خاص، بل واصل الأتراك مسلسل الإبادة والإرهاب في حق شعوب المنطقة الرافضة لأية وصاية أعجمية على بلدانهم مطالبين -في الوقت نفسه- برجوع الحكم إلى حاضنته العربية.
في هذا السياق، لم يكن سقوط الدولة السعودية الأولى، إلا محطة من محطات الصراع الوجودي بين العرب والمحتل التركي في إطار التراكمات التاريخية لقضية استعادة الوعي العربي، ودفاعهم عن قضيتهم الأولى المرتبطة بتحرير المشاعر المقدسة من قبضة الاحتلال العثماني، خاصة أن سلاطين آل عثمان لم يهمهم يومًا أمر تنمية العمران البشري في الجزيرة العربية باستثناء الاستماتة في إخضاع الحرمين الشريفين من أجل إضفاء الشرعية الدينية على خلافتهم المزعومة.
ورغم الارتدادات السياسية والنفسية السلبية التي أعقبت سقوط الدولة السعودية الأولى، نجح الإمام تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود سنة (1823) في طرد الحاميات العثمانية وتحرير مدن الخرج والدلم ومنفوحة والرياض والزلفي وعنيزة، لينجح في تأسيس أركان الدولة السعودية الثانية، ويشيع حكم الإسلام فيها لإعادة الحكم إلى أهله وإعادة إحياء مجد العرب وحضارتهم.
ومن صور الحكم الرشيد التي رسّخها آل سعود في تعاملهم مع الرعية، نرصد شذرات مما قاله الإمام تركي بن عبد الله، لأمراء البلدان في خطاب توجيهي جاءت بعض مضامينه: “واعلموا أني لا أبيح لكم أن تأخذوا من الرعايا شيئاً، ومن حدث منه ظلم على الرعية فليس أدبه عزله، بل أجليه عن وطنه”.
إن هذا النموذج من الحكم الراشد كان مصدر استفزاز لآل عثمان لتصدر الأوامر إلى حسين بك باستباحة الجزيرة العربية بأكملها، وخاصة الدرعية، وعندما وصل حسين بك إلى ثرمداء أعلن الأمان لأهل الدرعية وطلب منهم الخروج مقابل الضمان على حياتهم وأبنائهم وأموالهم مبطنًا لهم الغدر والخيانة وكاشفًا لهم الود والمسالمة.
نجاح الإمام تركي في استرداد بعض المدن ونشر العدل استفز آل عثمان
لقد شكلت شخصية حسين بك أنموذجًا ثابتا لأدوات البطش العثمانية التي خُصِّصت ووُجِّهت لإبادة المسلمين في الجزيرة العربية، وهنا نجد المؤرخ عبد الله بن محمد آل بسام يرصد جرائم حسين بك في الدرعية فيقول: “فلما وصلوا إلى الدرعية أمر حسين بك على أهلها الذين نزلوها بعد ارتحال إبراهيم باشا عنها أن يرتحلوا، وأمرهم بالسير إلى ثرمداء فتوجهوا إليها، ثم أمر بهدم الدرعية وقطع أشجارها فهدموها وأشعلوا فيها النيران وتركوها خاوية”.
لقد نجحت الحيلة وتكتيك الاستدراج الذي استخدمه حسين بك، وهو ما يصفه المؤرخ ابن بشر بالقول: “فلما قدم حسين ثرمداء أمر المنادي ينادي لأهل الدرعية من أراد بلدًا ينزلها فليأتنا نكتب له كتابًا يرحل إليها، فحضر من كان منهم غائبًا أو مختفيًا أو محترفًا، فلما اجتمعوا عنده أمر الترك أن يقتلوهم أجمعين، وأخذ الترك أموالهم وشيئا من أطفالهم” في مذبحة عظيمة ومقتلة كبيرة أطلقت عليها كتب التاريخ “مذبحة الحظيرة”.
إن ما ذكرته كتب التاريخ حول جرائم حسين بك في الدرعية ترقى إلى مستوى التواتر وتقطع بتورط الأتراك في إبادة مسلمي الدرعية على فترات متقاربة، وهنا نختم الإحالة بسرد ما تناوله عبد الله آل بسام حيث قال: “ثم أمر حسين بهدم الدرعية فهدموها وأشعلوا فيها النيران، ثم سار إلى الرياض وبها تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود”.
أمر حسين بك بهدم الدرعية وغدر بالآمنين من رجالها وأطفالها
إن ما قام به حسين بك من خلف الوعد، وتغرير الآمنين، ليس سلوكًا فرديًا وإنما هو جزء من البنية السلوكية للعثمانيين الذين جُبلوا على الغدر والمكر والخديعة، وهو ما يجعلنا نطمئن إلى رميهم بالنفاق استنادًا إلى الحديث النبوي الشريف “آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” (أخرجه الشيخان)، والثابت أن هذا السلوك الشاذ سيظل علامة مسجلة لتعامل العثمانيين مع شعوب المناطق التي أخضعوها إلى غاية سقوط دولتهم سنة (1924م).
- إبراهيم بن عيسى، تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد (الرياض: دار اليمامة، 1966).
- أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط2 (بيروت: د.ن، 1954).
- عبد الله آل بسام، تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق (الكويت: المختلف للنشر والتوزيع، 2000م).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق وتعليق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 1983).
- منير العجلاني، الإمام تركي بن عبد الله: بطل نجد ومحررها ومؤسس الدولة السعودية الثالثة (الرياض: دار الشبل، 1990).