هرطقات وفلسفات:
الديانـة المانـوية
شهدت إيران عبر عصورها التاريخية سلسلة من المعتقدات الدينية، والفلسفات العقدية المنحرفة البعيدة عن التوحيد، والتي كان لها تأثيرها على قاطني الهضبة الإيرانية، وعلى مكوناتهم الفكرية والروحية، فمعتقدات إيران وأديانها وطقوسها في معظمها مرتبط بالأساطير والخرافات التي تغذَّت عليها العقلية الفارسية القديمة كعبادة الشمس، والقمر، النجوم وجميع المظاهر الطبيعية، والبوذية، وعبادة النار “المجوسية” وغيرها.
معتقدات جلبوها بعد مَقدمهم من الهند إلى إيران، فانصهرت تلك المعتقدات مجتمعة على هيئة دين نادى به بعض الأشخاص مثل “زرادشت” و”ماني”، وإن كان هناك من المؤرخين المعاصرين من أنكر ظهور مثل تلك الديانات في التاريخ الفارسي القديم، وأنها قد استُحدثت بعد الإسلام بعدما حُرِّفَ التاريخ الفارسي القديم، خاصة الساساني منه بطريقة مقصودة متعمدة، وأخذ عنهم المؤرخون في التاريخ الإسلامي ودونوه في مصنفاتهم ونقل إلينا على عواهنه.
وكان الهدف من ذلك كله لغايات قومية ودينية في صراع الفرس مع العرب والمسلمين ضمن إطار الحركة الشعوبية المعارضة لكل عربي وإسلامي، وسواء اتفقنا مع هذا الرأي أو خالفناه، فإنه قد يكون لهذا الرأي قبول، فلو تعمقنا قليلاً في ذلك التاريخ الإسلامي لوجدنا أن الزندقة قد انتشرت مع ظهور الحركة الشعوبية في العهد العباسي وانتشر خلالها كتاب “الزند فست” وهوما يدعم ذلك القول.
وعموما تشير الروايات التاريخية، إلى ظهور الديانة المانوية باعتبارها حركة دينية ثنائية خلال القرن الثالث الميلادي في بلاد فارس ونسبت إلى مؤسسها “ماني” الملقب برسول النور أو المنير الأعلى، الذي أسماه “الشهرستاني” في ملله “ماني بن فاتك الحكيم”، الذي قتله بهرام بن هرمز بن سابور، الذي أحدث مذهبًا بين المجوسية والنصرانية.
وكان يعتبر كلاً من بوذا، وزرادشت، وعيسى عليه السلام أسلافاً له، وقد كتب “ماني” عدة كتب من بينها “إنجيله” الذي أراده أن يكون نظيرًا للأناجيل النصرانية، واعتُبرت حركته دينًا قائمًا بذاته وذلك بسبب قوة المذهب المتبع ومتانة هيكلها، والمؤسسات المنضوية ضمنها والمحافظة على استقلالية فريدة من نوعها، وانتشارها في أنحاء الإمبراطورية الرومانية وآسيا، وأشارت إلى ذلك النصوص اليونانية، والقبطية، والفارسية، والصينية وهي بذلك تؤكد هذه الشخصية أنها حقيقية، وقد تأثرت المانوية بالبوذية والغنوصية (العِرفانية) تأثرًا كبيرًا.
فأتباع الديانة المانوية يعتقدون أن المعرفة هي التي تقود إلى الخلاص، ويحقق ذلك من خلال انتصار النور الخيّر على الظلام الخبيث. فالمانوية من العقائد الثنوية التي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة، وكان النور هو العنصر الهام للمخلوق الأسمى وقد نصب الإله عرشه في مملكة النور، ولكن لأنه كان نقيًّا وليس أهلاً للصراع مع الشر استدعى “أم الحياة” التي استدعت بدورها “الإنسان القديم”، وهذا الثالوث هو تمثيل “للأب والأم والابن”، ثم إن هذا الإنسان الذي سمي أيضا “الابن الحنون” عُدَّ مخلصًا؛ لأنه انتصر على قوى الظلام بجَلَدِهِ وجُرْأته.
بل يرون أن الخلاص هو تحرير الروح من سجنها الجسدي فبذلك يمكنها أن تصعد لله، هذا وقد سبب لها تعايشها الطويل مع الجسد نسيان أصلها السامي أي سبب لها الجهل، والخلاص من الجهل هو المعرفة، ولذلك هو بحاجة للمخلص، والجسد ورغباته شر لأنهما يمنعان الروح من الخلاص ولذلك تشجع المانوية على الزهد والرهبنة.
إضافة إلى التأثر بالتخيلات والأفكار التي أوجدها مَذْهَبَا التصوُّفِ والتشيُّع في التاريخ الإسلامي بالأفكار المانوية كالتقارب الروحي من الله، وما يعرف بتقمص وتناسخ الأرواح والحلول، وكان للمانوية أثرٌ كبيرٌ على المفاهيم الموجودة في الديانات الشعبية الأخرى في الصين كالديانة الطاوية التي برز التأثر فيها من خلال أفكار تتعلق بالكون والكيمياء الفيزيولوجية، والديانة البوذية من خلال أفكار حول نقاء الأرض وصفائها وطبيعة بوذا إلى غير ذلك من معتقدات باطلة ومنحرفة كانت بلاد فارس مسرحًا عامرًا بها.
ومن خلال طروحات تلك العقائد المانوية يتبين لنا مدى الاضطراب الذي عاشته المانوية ومعتقدوها بين العقائد المختلفة والهرطقات والفلسفات المعتمدةِ المُعْتَدَّة بالعقل دون غيره، مع عدم معرفتها بحقيقة خالق الكون العظيم والإيمان به عز وجل. والخلط بين الحق والباطل فخرجت للعالم بصورة مشوهة لا تقبلها الفِطَرُ السليمةُ.