جذورها التاريخية وتطورها
سعت الباطنية إلى تشويه الإسلام وفكره بنشر العقائد الفارسية القديمة
لم يكد ينتشر الإسلام وينطلق أثره -خاصة في بلاد فارس والأناضول- حتى ابتُلي بفِرَقٍ حاولت شَقَّ صَفِّه واختراقه من داخله، فالإسلام الذي نشأ قويًّا صلبًا غير قابل للهزيمة، ما عاد يمكن إيقافه إلا بخلق الفتن في داخله، ونشر العقائد الباطلة فيه. ومن تلك العقائد التي سعى أعداء الأمة العربية إلى زرعها بين العرب؛ الباطنية.
والباطنية إحدى أكثر العقائد غموضًا بين الفرق التي تدَّعي الإسلام، كما أن الباطنية مصطلح يطلق أيضًا على فرق أخرى خارجة عن مِلَّة الإسلام بالكُلِّية، مثل المزدكية الفارسية، وهو ما أثار كثيرًا من الشكوك، ودفع إلى الربط بين تلك العقائد والفِرَق بأنها ذات منبعٍ واحد، واختلطت في وعاء واحد.
جاء لفظ الباطنية من كلمة (بَطَنَ) بمعنى (خَفِيَ) فهو باطن، جمعه بواطن، واستبطن أمر وقف على دخلته، والباطِنة بالكسرة، السريرة، والباطن هو داخل كل شيء، ومن الأرض ما غَمُضَ يُسمى باطنًا؛ وسبب تسميتهم بهذا الاسم لأنهم يزعمون أن لظواهر القرآن بواطن يعرفونها دون سواهم، وقال الشهرستاني في سبب تسميتهم بهذا اللقب: “إنه لزمهم بهذا اللقب لحكمهم بأن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً”.
ويصف محمد الخطيب الأصلَ التاريخيَّ للباطنيَّةِ: “الواقِعُ أنَّ مؤرِّخي الفِرَق مختلفون في أصلِها ومَصدَرِها؛ فمنهم مَن يَرجِعُها إلى المجوسِ، ومنهم مَن يَنسُبُها إلى صابئةِ حَرَّان، إلَّا أنَّ هذا الاختلافَ يزولُ عندما نعرِفُ أنَّ الأصولَ التي يعتَمِدُ عليها الباطِنيَّةُ بكلِّ فِرَقِها وطوائفِها نابعةٌ من الفلسفةِ اليونانيَّةِ التي غزت بأفكارها الكثيرَ مِنَ الفِرَقِ”.
أما افكارها التي بَنَت فلسفتَها عليها، فهي خليطٌ بين الفلسفةِ اليونانيَّةِ والطرق الدينية الفارسية، إضافة إلى أفكارٍ هندوسية أثَّرت تأثيرًا عميقًا في فكر الباطنية وعقائدها، والتي وجدت لنفسها بيئة حاضنة في فارس إذ نمت وترعرعت وانتشرت لاحقًا.
وقد اختُلف في نشأة الباطنية، ويعود ذلك الاختلاف إلى سببين مهمين: غموض أمر الباطنية في أدوار كثيرة مرّ بها تاريخهم، فكل واحد من العلماء أرّخ لهم حسبما وصل إليه من أخبارهم؛ ولأن مذهب الباطنية نفسه يقبل تلك الاختلافات ولا يؤكدها أو ينفيها.
والحقيقة التي يجب أن ندركها أنه مهما كانت الأسباب فإن الدعوة الباطنية يحوطها كثير من الغموض، خصوصاً في بدء أمرها، أي في الدور الذي يسمونه دور الستر؛ إذ لا يتمكن أحد من معرفتهم والكتابة عنهم الكتابة الدقيقة، ومهما كان الأمر فإن عقائد الباطنية على العموم قد استُمِدَّت من عقائد قديمة.
ولكن بدأ التخطيط لإقامة الباطنية في الإسلام -كما يترجح من أقوال العلماء- ما بين سنة 200و300هـ أي بعد انتشار الإسلام وعِزِّ أهلِه به، وانطفاء نار المجوسية.
تأثير الفلسفة في الباطنية
الفلسفةُ اليونانيَّةُ هي الأكثَرُ تأثيرًا في الباطنية، وخاصة فلسفة أفلاطون الإشراقيَّةُ الغنوصيَّةُ، وفيثاغورس بفلسفته العَدَديَّة، ويمكن القولُ بأنَّ منظومةَ عبد الله بن سَبَأ هي منظومةٌ “غنوصيةٌ باطنيةٌ”، ويرى المؤرِّخون أنَّ (التصوُّفَ الحُلوليَّ) المتطرِّفَ ذو طابعٍ غنوصيٍّ باطنيٍّ، كما يُصنَّفُ بعضُ الغُلاةِ ضِمنَ الغنوصيينَ.
ولا تزالُ هناك فرقةٌ دينيةٌ في العِراقِ وإيرانَ تُسمَّى المندائيِّين، وهي فرقةٌ غنوصيةٌ. و”مندائي” هي الكلمةُ الآرامية لـ “غنوص”، فالمندائي هو العارِفُ، وهي مشتقَّة من كلمة “منداء” أو “منداع” بمعنى “مَعرِفة”، وتتضمَّن عقيدتُهم التطهُّرَ في المياهِ الجاريةِ، وشعائِرَ جنائزيَّةً مركَّبةً، فحينما يموتُ المندائي يقومُ الكاهِنُ بالشعائرِ اللازمةِ لإعادةِ الرُّوحِ لمسكنها الإلهيِّ؛ ليتوحَّد الميتُ مرَّة أخرى مع آدَمَ السِّري “الإنسان الأَزَلي”، أو المجد، جسد الإله المقدَّس.
فالباطِنيَّةُ -كما يصفها الباحث بليل عبد الكريم-: “ظاهِرةٌ شاعَتْ بين الطوائفِ الفارسيَّة، في محاوِلةٍ لهَدمِ الإسلامِ من الداخِلِ، عن طريقِ ابتداعِ مناهِجِ الباطِنيَّةِ في تأويلِ الشَّريعةِ على نحوٍ يؤدِّي إلى نَسْخِها، والاستعاضةِ عنها بخليطٍ عجيبٍ من الِحكمةِ، يجمَعُ بين خُرافاتِ الفُرسِ، ووَثَنيَّةِ الإغريقِ، وعقائِدِ اليهودِ الذين حرَّفوا دينَهم من قبلُ؛ فظهرت بصيغةٍ إسلاميَّةٍ خادعةٍ؛ كفكرةِ النُّورِ المحمَّديِّ، وعِصمةِ الأئمَّةِ، ومُعجزاتِهم، والغَيبةِ، والرَّجعةِ، والحُلولِ، والتجسيمِ، والتأويلِ والتشبيهِ، وغيرِ ذلك من الأفكارِ والعقائِدِ”.
ويعيد كثير من المؤرخين أول ظهور للباطنية إلى سنة اثنتين وتسعين للهجرة، كما ذكر ذلك السيوطي، وأخَّر بعضهم ظهورها إلى سنة 205هـ وقال آخرون سنة 250هـ، ويرى بعضهم أن ظهور الباطنية بشكل تنظيمي يعود إلى سنة 276هـ، حينما قام ميمون القداح بإنشاء هذا الفكر، ونسب بعضهم ظهور الباطنية إلى حسن الصباح، الملقب بالسيد أو شيخ الجبل، حيث ينسب إليه تأسيس ما يعرف بـ “الدعوة الجديدة” أو “الطائفة النزارية المشرقية” أو “الباطنية” أو “الحشاشون” حسب التسمية الأوروبية.
ستبقى العلاقة بين المأمون والفرس واحدة من العلامات الفارقة في التاريخ الإسلامي، فمن خلاله عبر الفرس إلى داخل الدولة الإسلامية واستطاعوا إغراقها وتفتيتها، لذلك يعيد بعض من رصدوا ظهور الباطنية -على نحو منتظم واسع- إلى أيام المأمون، وتحديدًا على يد حمدان بن قرمط، وعبد الله بن ميمون القداح، وانتشرت هذه الدعوة في زمن المعتصم العباسي، واجتمعوا في سجن المهدي، للتنسيق بينهم، وكانوا أربعة رجال، وهم: أحمد بن الحسين، وعبدالله بن ميمون بن قداح، والزنداني، وحمدان بن قرمط.
وجد الفرس في عهد المأمون العباسي طريقًا مُعَبَّدًا إلى نشر باطِنِيَّتِهِم.
ولُقِّبوا بالباطنية لدعواهم “أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهِم عند الجهَّال الأغبياء صورًا جليَّة، وهي عند العقلاء الأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معيَّنة، وأن مَن تقاعَد عقله عن الغوص في الخفايا والأسرار، والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعًا إلى الاغترار – كان تحت الأواصر والأغلال، معنيًّا بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال التكليفات الشرعية”.
ومن أهم عقائد الباطنية إسقاط التكاليف الشرعية، فيقولون تبريرًا لذلك “فإن مَن ارتقى إلى علم الباطن انحطَّ عنه التكليف، واستراح من أعبائه”، وهم المعنيون بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157).
نظامهم الدعوي
اتَّخذ الباطنيون جمعيات سرية تسعى إلى نشر مذهب الإباحية المزدكية المجوسية والإلحاد الفلسفي. والأصل في النشاط الباطني أن دعاته يدَّعون -تحت بريق الإثارة وستار السرية- أن دعواهم لا يحملها إلا ملَك مقرَّب أو نبي مرسل، أو مَن امتحن الله قلبه بالإيمان، ولمَّا كانت السرية ضرورةً تنظيميَّةً للأعمال الباطنية -خاصة في مراحل التحريف والتجنيد- فإنه من اليسير على الباطنيين أن يجعلوا من الممارسات الباطنية السرية هي الأخرى دينًا.
- محمد الخطيب، الحركات الباطِنيَّة في العالم الإسلامي عقائدها وحكم الإسلام فيها، ط2 (عمَّان: مكتبة الأقصى، 1986).
- غالب عواجي، فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها، ط4 (جدة: المكتبة العصرية، 2001).
- فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي (دمشق: دار التكوين، 2016م).
- محمد الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، 1982).