من أسواق النخاسة إلى الحكم باسم "العثمانية"

سلطانات الظل

في الحرملك

يُخبرنا التاريخ أن كل دولة كان لها رجال ظل، ليس لهم مناصب رسمية في الدولة ولا يظهرون كثيرًا على الملأ، لكنهم في الخفاء يديرون ويتحكَّمون في مصائر البلاد والعباد.

تلك الظاهرة ربما لجأ لها قادة الدول لإيجاد ملجأ أخير حينما تضيق بهم السبل ويعجز المسؤولون عن الحل، لهذا فإن لها مسوِّغ، لكن ما فعله سلاطين العثمانيين لم يكن له أي مسوِّغ؛ لأنهم لم يتخذوا رجال ظل بل نساء ظل، ولم يكن هؤلاء النسوة سوى جوارٍ جُلبن من أسواق النخاسة من كل حدب وصوب، وبسبب شهوات بني عثمان وارتمائهم في أحضان الجواري ليل نهار، أصبح مصير البلاد في يد نساء الحرملك، فتحكّمن في سلاطين الترك وأصبحن سلطانات ظلٍ إن جازت التسمية.

وتشير المصادر التاريخية إلى أنه منذ اللحظة الأولى لتأسيس الحرملك في عهد السلطان محمد الفاتح (1444-1481)، تبين أن هذا المكان المخصص للجواري ونساء بني عثمان هو مقر الحكم الفعلي في البلاد، فمن ناحية فإن سلاطين العثمانيين قضوا معظم أوقاتهم بين جواريهم، ومن ناحية أخرى فإن حالة الضعف التي سيطرت على بني عثمان أغرى هؤلاء النسوة بإطلاق رغباتهن في اكتساب النفوذ والثروة حتى أصبحن يتحكمن في البلاد.

أما بالنسبة للجواري فلم يكن الطريق صعبًا على الإطلاق، يكفي أن تتقن الجارية إغواء السلطان ليقع في غرامها، وحين تُنجب منه تترقى مباشرة إلى “قادين” وهي مرتبة في قوانين الحرملك تجعل صاحبتها تُعامل معاملة السلطانات، وحين يتولى ابن تلك الجارية العرش بعد ذلك، تصبح هي السلطانة الوالدة، أعلى منصب في الحرملك وتتمتع بنفوذ يفوق نفوذ بعض السلاطين أحيانًا.

ونتيجة لتعدد الجواري وهيام سلاطين الترك بهن، كان طوال الوقت جوارٍ أنجبن من السلاطين، ذلك أشعل صراعًا، مَن منهن سيتولى ابنها كرسي العرش؟!، وبسبب ذلك أيضًا أدرن كثيرًا من هؤلاء النسوة المؤامرات وحوادث الاغتيالات كي تؤَمِّن لابنها منصب السلطان.

ولعل البعض قد يظن أن تحكّم سلطانات الحرملك ظهر في عصر تدهور الدولة العثمانية أو نهاية عقودها، لكن الحقيقة أن الظاهرة بدأت مبكرًا لتُصبح عقيدة سياسية عند بني عثمان، وتثبت المصادر التاريخية أن البداية كانت من عند السلطان سليمان القانوني (1520-1566) ميلادي الذي أُغرم بـ”روكسلانة” وهي جارية من أصول أوكرانية وأب مسيحي، أُسِرَت ودخلت ضمن جوارٍ أُخَر إلى الحرملك.

وفي وقت قصير استطاعت روكسلانة أن تَسلب سليمان القانوني عقله، فهام بها حبًّا وكتب فيها قصائد شعرية ثم أنجبت له تلك الجارية ولدًا فصارت زوجًا له، ومستشارةً أولىى في شؤون الدولة، ويصف المؤرخون نفوذ روكسلانه بأنها جعلت سليمان القانوني غير قادر على فراقها للدرجة التي دفعته إلى التخلي عن قيادة حملاته العسكرية.

روكسلانة جارية سليمان القانوني أول سلطانات الظل في الدولة العثمانية.

لكن روكسلانة لم تكترث بهذا السلطان الضعيف العاشق، فخططها الماكرة وقوة شخصيتها دفعتها إلى التفكير في الوصول بابنها سليم الثاني إلى الحكم، وفي سبيل ذلك خلقت فتنة بين سليمان القانوني والصدر الأعظم إبراهيم باشا، الذي كان يؤيد تولي العرش للأمير مصطفى.

ونجحت روكسلانة في خطتها فعزل سليمان القانوني إبراهيم باشا وعين بدلًا منه رستم باشا الذي تزوج إحدى بنات روكسلانة، ثم انتقلت إلى الخطوة الثالثة بأن أوهمت السلطان بأن ابنه يتآمر عليه، وفي 1553 ميلاديًّا قُتل مصطفى سليمان القانوني، وبعد وفاة الأخير تولى السلطان سليم الثاني ابن روكسلانة الحكم.

وما فعلته روكسلانة، تحول إلى قاعدة في الدولة العثمانية، كقواعد قتل الأشقاء وتجويع الناس، فحين تولى السلطان سليم الثاني الحكم(1566-1574) ميلادي، كانت هناك الجارية “نوربانو” التي سيطرت عليه حتى تزوجته وأنجبت له مراد الثالث الذي سيتولى العرش بعد ذلك.

وتمكّنت نوربانو من التحكّم في كافة شؤون الدولة العثمانية في عهد زوجها سليم الثاني أو ابنها مراد الثالث، وذلك بفضل حيلتها في التحالف مع الصدر الأعظم صوكولو محمد باشا، وكبير الأغوات في القصر غضنفر آغا، وهو تحالف رضخ أمامه السلطان سليم الثاني وابنه من بعده مراد الثالث.

لكن الأمور اتخذت منحًا دراميًّا حين ظهرت الجارية صفية التي اشترتها السلطانة “هوما شاه” ابنة الأمير محمد بن سليمان القانوني وأهدتها إلى مراد الثالث وقت أن كان وليًّا للعهد.

تحكمن بسلاطين العثمانيين وأدرن شؤون الحكم.

صفية استطاعت أن تَسلب عقل مراد الثالث الذي أصبح مشتتًّا بين أمه القوية من ناحية، وجاريته المفضلة صفية من ناحية أخرى، ولحل تلك الأزمة حاولت نوربانو أن تكسر احتكار صفية لفراش السلطان مراد الثالث لكن الأخير رفض في البداية قبل أن يخضع لرغبة والدته ويقبل الجواري الأُخَر.

لكن صفية لم تترك المعركة بسهولة، فأصرت على البقاء بجوار مراد الثالث، واستطاعت أن تُنجب له الأمير محمد خان الذي سيصبح فيما بعد السلطان محمد الثالث (1595-1603) ميلادي، وانتهي الصراع حين ماتت والدة مراد الثالث مسمومة عام 1583 فأصبحت صفية سلطان صاحبة أقوى نفوذ داخل قصور الحكم.

ولمعرفة مدى الجرائم التي ارتكبتها صفية سلطان، المُلقبة بسفاحة بني عثمان، وتوضح المصادر التاريخية أنها أمرت أن يُحبس الأمراء الذكور من آل عثمان داخل أجنحة معزولة عن العالم داخل الحرملك، لكي تقضي على أي منافس لابنها، ذلك الأمر ترك آثارًا بالغة على من نجا من السلاطين في المستقبل إذ عانوا جميعا من أمراض نفسية نتيجة ما فعلته صفية سلطان بهم.

وأكملت صفية سلطان، جريمتها حينما كان السلطان العثماني مراد الثالث يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأصدرت أوامرها لكبير الأغوات غضنفر آغا بقتل أبناء السلطان الذكور الـ18 خنقًا ليصفو الطريق لابنها.

كي تمنح ابنها العرش قتلت صفية سلطان 18 من أبناء مراد الثالث.

تكرر الأمر ذاته مع “كوسم سلطان” التي بيعت جاريةً فتحولت إلى سيدة سيدات بني عثمان، وذلك بعد أن استطاعت الزواج من السلطان أحمد الأول وأنجبت له الأمير مراد، السلطان مراد الرابع لاحقًا.

وتمكّنت كوسم سلطان من عقد تحالفات مع رجال الدولة في قصر الحكم لتأمين المنصب لابنها ضد أخيه الأمير عثمان ابن ضرتها وعدوتها التاريخية “خديجة ماه فيروز”.

وحسمت كوسم سلطان الأمر لصالح ابنها، فبعد أن تولى الأمير عثمان العرش وأصبح لقبه عثمان الثاني، اشتركت في مؤامرة اغتياله، وتولى بعد ذلك ابنها مراد وهو في سن الـ11 عامًا الحكم وأدارت هي البلاد بصفتها نائبة السلطان لمدة 9 سنوات حتى بلغ مراد الرابع سن العشرين، ولم ينته نفوذها عند هذا الحد بل استمر طوال عهد ابنها.

وتُجمع المصادر التاريخية على أنَّ تَرْك أمور الدولة العثمانية في يد سلطانات الظل وما فعلنه كان أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الدولة العثمانية والتخلف الذي عانى منه المسلمون، كما تؤكد الروايات التاريخية أيضًا على أنه ليس هناك أي سلطنة عرفها التاريخ تحكم فيها النساء بهذا النحو الصريح، والخطير أيضًا.

تمكنت كوسم سلطان من اغتيال عثمان الثاني وحكم البلاد بالنيابة.

  1. إسماعيل ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث (الرياض: مكتبة العبيكان).

  2. الدولة العثمانية المجهولة – أحمد آق كوندوز، سعيد أوزتورك.

  3. منشور – سلطانات الدم.. «صفية» سفاحة أمراء بني عثمان.. الباحث محمود البتاكوشي.

  4. سيد محمد السيد محمود، الدولة العثمانية النشأة والازدهار وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة (القاهرة: مكتبة الآداب، 2007م).

  5. عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة (الدار البيضاء: اتصالات سبو، 2008م).

  6. ماجدة صلاح مخلوف، الحريم في العصر العثماني (القاهرة: دار الآفاق، 1998م).

  7. محمد جميل بيهم، أوليات سلاطين تركيا المدنية والاجتماعية والسياسية (صيدا: مطبعة الوفاق، 1930م).

  8. محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، ط2 ( بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 2008م).